مذكرات

طيران بلا أجنحة .. سلطة غلبة..! “محدث”

برلماني يمني

أحمد سيف حاشد

الإهداء: إلى الأحرار الاستاذ أبو زيد الكميم وزملائه المعتقلين

بعض ما لا أجده في أبي قبل خمسين عاماً، أجده اليوم بشعاً ومتوحشاً في السلطة السياسية التي تحكمنا بشرعية الغلبة والقوة التي تصل حد الطغيان.

بعض ما استذكرته وكتبته عن أبي بوجع الأمس، وربما بديتُ فيه مبالغاً أو مغالياً فيه، لا أجد فيه وجه للمقارنة مع السلطة السياسية التي تقترف ما يفوق التصور، وإلى حد يصل بها حد الوحشية.

ما قاله جيم موريسون من أن: “بعض الآباء يدمرون أبناءهم قبل أن يدمرهم أي شيء أخر” أجده ينطبق أكثر على هذه السلطة التي لا تكتفي بتدمير حاضرنا، بل وتدمر المستقبل الذي لم يأت بعد، لنجد مقولة: “أجمل الأيام تلك التي لم تأت بعد” قد تم الانقلاب عليها في اليمن، أو تم قلبها رأسا على عقب.

وهنا بإمكاني القول الفرق شتان وبما لا قياس فيه ولا مقارنة.. سلام ألف مرة على أبي، وتغشاه الرحمة عشراً ومائة وألفاً، وتباً لهذه السلطة التي باتت تتوحش ربما أكثر من التوحش نفسه، وتدمِّر بإمعان حاضرنا، ومستقبل أبناءنا، ولا بأس من الوقوف قليلاً عند هذا الأمر، أو اعطاء ملمحاً مما نعيشه، وقد صار حافلاً وباذخاً به.

***

اليوم نعيش عهداً أشد وطأة من العهد العبودي الأول.. عهداً صادماً ما كان يخطر على بال.. أكثر سفوراً وقبحاً وفجاجة.. عهداً يريد استعباد الموظف حتى يصل به الدرك الأسفل من النار، أو تحويله إلى ما دون العبد، مهدور الكرامة، ومجرد من كل الحقوق، حتى تلك التي تبقيه على قيد الحياة.

إن الموظف المقطوع راتبه، والإصرار على ابتزازه بحقوقه، وحمله على العمل مرغماً دون راتب يقتات منه، هو حال ينزل به قدراً ومنزله إلى أسوأ من العبد في عهد العبودية الأكثر استبداداً وقسوة.

السلطة التي فقدت إحساسها بالمسؤولية، وفقدت معه حسها الإنساني، تريد موظفاً يعمل دون راتب، وتريد معلماً يعمل دون أن يأكل أو يشرب أو يلبس أو يسكن أو يعيل أسرة، فإن لم يفعل ترفع به جهة عمله منقطعاً عن عمله، لتستولي تلك السلطة فوق راتبه، على خدمته، وما أذّخره لتقاعده من عمر شبابه المعطاء؛ فيتفاجأ بقدر اسمه “الغلبة” قد أستولى على حقه، وبدد حلمه في العيش الكريم آخر سنين عمره، بعد عمرٍ كان حافلاً بالعطاء وخدمة الوطن.

هكذا يجد الموظف نفسه مسحوقاً حد العدم، ومنهوباً حد الموت.. عارياً من كل شيء.. محروماً من راتبه الذي يتقاضاه مقابل عمله، ومحروماً مرة أخرى من راتبه التقاعدي الذي كان يريد أن يستند إليه في ضعفه وشيخوخته، ويعتاش منه بقية حياته، بعد أن قضى جل ذلك العمر في خدمة الوطن، وبلغ أحد الأجلين.

إنه حكم إعدام مضاعف في تنفيذه.. عمل بدون راتب، وسنوات خدمة مهدرة، تجتمعان في نهاية مأساوية فادحة ومؤسفة يعيشها ذلك الموظف المنكوب بسلطة كل شرعيتها لا تتعدى الغلبة والادعاء.

مثل هذا الإعدام المضاعف لا يحدث إلاّ في ظل سلطة غلبة متصحِّرة الوعي، وقوية الطباع، ومتوحشة الفعل، وتفتقد تماماً إلى ما هو إنساني، ولا تمت بصلة للمسؤولية نحو شعبها، وتفتقر إلى المعرفة بأبجديات وبديهيات حقوق المواطن.

هكذا يجد الموظف نفسه يعمل ويأمل، فينتهي إلى سراب.. يزرع دون جني أو حصاد.. يعيش مستقبل مصادر بغلبة، وحاضر يكتظ بإذلاله، وإهدار كرامته، لينتهي به الحال إلى الموت قهراً وكمدا.

مُعلِّم مطلوب منه الكثير، وهو محاصر بقوت يومه.. مُعلّم قليل الحيلة، ومعدوم الخيارات، ومن دون حقوق إلى حد أنه وجد حقه في الحياة مهدداً، أو بات واقع حال.. قدره السيء أوقعه تحت وطأة سلطة أعدمت راتبه، واستولت على خدمته.. إنه ظلم وحرمان مضاعف يصل حد النيل من حقه في الحياة، فضلاً عن الكرامة.

هذه السلطة تريد من المعلم أن يعمل دون أن توفر له شيئاً من هذا ولا ذاك.. لا تكتفي بالتخلي عما هو حق دستوري وقانوني للمعلِّم، بل وتتخلّى عن مسؤولياتها كاملة نحوه.. سلطة تدير ما هو تحت ولايتها أو واقع في قبضتها، على نحو يصل بالمعلّم إلى حالٍ أكثر من مزري، ومر بطعم العلقم، وتراتبية دونية تصل به إلى دون العبد، بل والحيوانات الأليفة والطيور الداجنة التي يلتزم مالكها بمأكلها ومشربها.

عهد جريء في الاستيلاء على ما هو مكتسب للمواطنين، موظفين ومعلمين وغيرهم من شرائح المجتمع، ويجري هذا على نحو صريح، بل فج وصارخ.. موغل في غب الباطل.. يعطي حقك الأصيل من لا يستحق.. يتجاوز حدودك، ويغتصب حقوقك بجلافة القادم من أدغال التاريخ المحكوم بقانون الغاب، وشريعة الحق لمن غلب.

عهدٌ يحاول أن يقطع صلته بالعصر وتراكمه المعرفي الإنساني، ويهدم كل يوم أكثر من سابقه شيئا اسمه دستور وقانون وحقوق، بل ويزدريه بتفكير بدائي، وايديولوجيا فجة ومستكبرة تريد أن تعيدنا إلى عهد أشدُّ تخلفاً واستبداداً وطغيانا.

سلطة متسلطة على رقاب الناس بشرعية “الغلبة” تستبيح حقوقك بتحدٍ وإرغام.. تستولي بغلاظة ما ليس لها فيه حق ولا شبهة، ثم تهبُه لمن يمنحها الولاء أو ينال رضاها.. سلطة غلبة تستبيح حقوقك، وتتركك تكابد الويل والحرمان حتى تموت جوعاً وضيقاً وكمداً.

وأكثر من هذا وذاك تعتقلك وتغيّبك إلى مدى غير معلوم إن طالبت بحقك في الحياة، وحقك في الراتب مقابل ما تبذله من عمل وجهد، ولا تعر بالاً لشيء اسمه إنسان أو حقوق، أو مستقبل، أو حياة، ولا ترفع عن كاهلك ظلم بات أكبر من طغيان.

***

مرة أحكام القضاء هو تنفيذها، ويعتبر تعطيل وعرقلة تنفيذ الأحكام جريمة يعاقب عليها القانون، والسؤال هنا: لماذا رجال السلطة يستسهلون ارتكاب الجرائم إلى هذا الحد المستفز، ويتعاطون مع حقوق المواطن ببخس وخفة؟!

من خلال استقراء ما يحدث كافٍ لتأسيس قناعة راسخة إن رجال تلك السلطة ليسوا رجال دولة، ولن يستطيعوا أن يكونوا كذلك، ولا يستطيعوا أن يبنون دولة للمواطن، حتى بعد ألف عام.. إننا نعيش واقعاً مريراً، وغصة لا حدود لها.

اليوم وفي هذا العهد الثقيل بالجبايات، واستباحة الحقوق والحريات، يتم إلغاء القانون بلائحة، ويتم إصدار لائحة من دون قانون، بل ومخالفة للدستور، ويتم إصدار تعميمات متعارضة بل ومتصادمة مع الدستور والقانون، وأسوأ من هذا أن يتم بمذكرة مكونة من بضعة أسطر، وجرة قلم واحدة، تعليق وإيقاف نصوص دستورية وقانونية، وأحكام قضائية باتة..!! ونسأل هنا” أين المدعيين؟! اين قصة علي ودرع اليهودي، وأين الأشتر النخعي.. أين العدالة وأين الحقوق وأين الحريات، وألف أين؟!!

إنه من الفادح جدا، والمصاب الأكثر من جلل، والواقع الأكثر من كارثي أن يتم نسف كل هذا التراكم المعرفي الدستوري والقانوني والقضائي لأكثر من ستين عاماً، بمذكرة واحده يهدون فيها كل شيء اسمه دولة وإدارة ومؤسسات، وفصل بين السلطات، ويهدون معها ما بقي للمواطن من حقوق وحريات، وسبق أن كشفت لنا “مدونة السلوك الوظيفي” ما يخبوه في نفوسهم من مآرب ونوايا خبيثة، ستؤدي إلى تحويل الوظيفة العامة، وعقود العمل إلى صكوك عبودية بدائية.

ماذا أبقوا لنا من نضالات الحركة الوطنية اليمنية خلال أكثر من ستة عقود من النضال والكفاح المستمر، في مجالات المعرفة والقانون والقضاء والتنمية..؟!! ما فائدة القضاء إن كان يتم منع تنفيذ أحكامه الباتة؟!! ما جدوى الحديث عن استقلال القضاء، بل ووجوده، وقد بلغ الحال هذا الحد من الهدم والعبث الباذخ..؟!

ما الفائدة من مجلس النواب للمواطن، بعد أن حولته إلى محلل ومُشرّع لما تريد من أهداف سلطوية واستهداف سياسي، وتمرير للجبايات والنهب والباطل على حساب المواطن وحقوقه وحرياته؟!

هم وبعد ما بلغوه من التمكين، باتوا لا يريدوا دستور أو قانون أو قضاء، ولا برلمان، ولا حكومة، طالما هم قادرون بمذكرة واحدة من عدة أسطر أو بمدونة واحدة نسف كل ذلك في غمضة عين، وجرة قلم في توقيع يفتقر للشرعية.

مدونة ومذكرة واحدة من ألف مذكرة وتعميم كشفت لنا واقع الحال، ومدى ما بلغوه من الاستهتار بكل شيء، وما ينتون فعله والذهاب إليه، فيزيدوا فوق الخراب خراب، لنجد أنفسنا أمام ردّة حضارية كاملة، مكتملة الأركان، بدون دستور ولا قوانين ولا قضاء ولا عدالة ولا دولة ولا مؤسسات، وهو ما كشفه ذلك الوعي البدائي المتصحّر الذي يحكمنا اليوم بغطرسة واستكبار ونرجسية، ويكشف مدى الغلبة التي نعيش تحت وطأتها، ووبالها الذي نعيشه، واضعاف مضاعفه تنتظرنا في مستقبل بات معدوماً، أو الإجهاز عليه حال وجوده.

***

ومن جانب أخر نحن نعيش اليوم عهداً ربما يجلب فيه اسمك وانتماؤك وولاؤك حظاً وغنيمة واحتكاراً، أو حرمانَ ودونية، لا يبتدئ من الوظيفة العامة مرورا بالترقية، ولا ينتهي بشغل المناصب العليا الخفية والمعلنة، وما يلازمها من امتياز ووفرة أو تضييق وحرمان.

أصابوا أسماءنا بكل مقيت حتى باتت وبالاً يصيبنا ويصيب أصحابها، في صراع محتدم تسوسه عنصرية بغيضة، وعصبيات منتنة، ومصالح ضيقة، يجري معها استجرار تاريخ دامٍ ومرعب عمره أكثر من 1400عام، لازال يمتد ببشاعته ودمامته إلى اليوم، وبلعنة لا تريد أن تجفل أو تغادر حياتنا وحياة من سياتي بعدنا.

السلطات المتعاقبة لدينا لا تنهض ببناء حقيقي، ولا تقدم تنمية شاملة، بل تدمّر ما بقي لنا من دولة وقانون وحقوق.. السلطات التي تحكمنا طفيلية، ومتعفّنة الوعي، وهي في جلها، تعتاش وتقتات على ما قبلها وما بقي للمواطن من حقوق وحياة.

السلطة التي تحكمنا بشرعية الغلبة تكرِّس فشلها كل يوم، وتفشل في إحداث اقتصاد معافى وتنمية مستدامة، بل وتعجز على نحو مضطرد في تحسين أحوال مواطنيها، بل حتّى إيقاف تدهور معيشة المواطنين وسياسة الإفقار التي تجتاحهم.

باتت هذه السلطة وأمثالها تجلب للمواطنين مزيداً من الفقر، وتحوّل الفقراء إلى معدمين، وتنشر الفوضى في الإدارة حتى تجهز على آخرها في المؤسسات والمصالح الحكومية والمرافق العامة حتى تصل إلى أصغر وحدة فيها، وتنشر كوارثها في الإدارة والمعيشة حتى تصل بمجاعتها إلى كل بيت.

سلطات تستعيض عن فشلها بفرض نفسها بالغلبة تارة، والحيلة تارة أخرى، وتستخدم مقدرات الشعب في تكريس فكرها، وسياساتها وأيديولوجياتها في الوعي، وتتطفّل على ما سبقها من بناء متواضع ربّما جله هدايا من شعوب أخرى أو هبات ومعونات، فتستبدل الأسماء القائمة على المدارس والشوارع والمنشآت بأسمائها التي تكرّس فيها عصبيتها وأيديولوجيتها، وفكرها وسياساتها وثقافاتها وانحيازها.

بات اليوم أسود من أمسه؛ فنقول مجازاً وحقيقة: لا يبنون مصانع ولا مدارسَ..! لا يبنون مدناً ولا يرصفون شوارع..! بل يحولون بعض المنشآت المدنية إلى سجون.. يتسولون من الآخر دون اعتماد على أنفسهم.. يتآمرون على أوطاننا.. يفسدونها بإمعان.. يعيدون تسميتها.. ينهبونها بجرأة.. يهدمونها وينشرون الفساد والخراب فيها على نحو مرعب ومهول.

يصنعون دُمىً وأصناماً وكوارث، ويتباهون ويتفاخرون بها دون حياء.. يطلقون التسميات على مسميات هي منها ومنهم براء، بل هم يعيشون أكبر عوزاً وفقداناً لها.. وأكثر من هذا وذاك لا يستحون ولا يخجلون.

***

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى