طيران بلا اجنحة .. حميد والسيل..!! “محدث”
برلماني يمني
أحمد سيف حاشد
وأنا طفل كنتُ أسأل: لماذا الله يقتل الأطفال في الزلازل والسيول؟! ثم أتذكر ما قيل عن السيل الذي جرف الرجل الطيب “حميد” من رأس وادي “شرار”، وغيّبه إلى الأبد، وسُمّي ذلك السيل باسمه، وربّما البعض أرّخ لبعض الوقائع والأحداث من يوم سيل حميد، كأن يقول: فلان ولد قبل سيل حميد.
كنتُ أتخيل المشهد وأنا أذهب كل صباح لمدرسة “المعرفة” بـ “ثوجان” مشياً على الأقدام، وأمر كل يوم من نفس المكان أو قريباً منه، والذي قيل إن السيل جرف حميداً منه.. كنت أحزن وأتحسّر على “حميد” كلّما مررتُ من جوار المكان أو أطللت عليه.
كان المشهد الذي أتخيّله يملأ مساحة من وجدان طفولتي. كان ذلك الخيال يحشد جوارحي لتعيش مع الحسرة والألم، ومعهما وجه “حميد” الذي أتخيّله ولا أعرفه.
***
ما حدث لم يكن فيه نِزالاً، ولا فيه ميداناً وفرسانا.. لقد أخذ السيل المخاتل طيبنا “حميد” بغتة وخدعة، وما كان العراك إلا بعد أن أخذ السيل زمام القدر.. كان العراك جولة أخيرة، وكانت خاتمها مؤلمة ومؤسفة.
أتخيّل العراك بين الضحية “حميد” والسيل الذي أخذه على حين بغته، وقبل أن يستعيد نفَسه تغوّل عليه واشتد حتى نال منه كل منال.. حاول “حميد” يغالب السيل كمن يغالب قدره.. جرفه بشدة إلى أوجه، ودار به مرة ومرتين، وقلب عاليه سافله، ولم يترك للنجاة محاولة، و لا للنزال متسع.. بطش به من أول جرفة، ولم يترك له وقتاً لحيلة أو محاولة. ثم ذهب به بعيداً بعد توارٍ وابتلاع.
كنتُ أتخيّل “حميد” كيف أنزلقت قدمه، وكيف جرفها السيل، وكيف بطش به من أول ضربة كحيوان مفترس..!! جرفه وجرف معه أمله ورجائه وحلمه.. لا شجرة بقيت، ولا صدفة أتت، ولا صخرة أعترضت قدر.. كان السيل قد قال كلمته، وكان الأجل قد أدركه دون إمهال.
كنتُ أتخيّل وقع وصدمة الخبر على أهله ومحبيه.. أمه وأبيه وابنائه وزوجته وكل ذويه.. فجيعة ستسكُنهم ردحاً من زمن، وتفزع نومهم حالما يتذكروا ما حدث.. إحساس فضيع بالفقدان والألم سيظل يرافقهم كلّما مرّ طيفه أو ذكراه.. “حميد” رجل طيب يحب أهله، وهم يحبونه، وما كانوا يتخيلوا الحياة بدونه، ولا رحيله الفاجع.. قبل حين قليل كانوا ينادمونه، ثم خرج ولم يعد إلا خبراً وحسرةً، وفراق أبد.
لطالما حزنتُ عليه في كل مرور صباح ورواح، رغم أنني لا اعرفه؛ فكيف سيكون إحساس وحال أهله.. كنتُ حريصاً أن أتفرّس تفاصيل المكان الذي ألقت عيون “حميد” نظرتها الأخيرة عليه.. كنتُ أتذكر المشهد الذي أتخيّله، وأشاهد زميلي عبده ابن حميد، وأخيه محمد الذي صار معلماً في المدرسة..
***
قصة “حميد” ومعركته الأخيرة مع السيل ذكرني بمعركة شعبنا مع الفساد الذي أُبتلينا به، وأصاب شعبنا في مقتل، وصيّره شظايا ومأساة لا تنتهي.. أوصلنا إلى الحال الذي نراه اليوم ونشهده.
بات اليوم النهب والفساد والاستلاب أشد من طوفان نوح. جارفاً أكثر من “توسنامي”.. بات البعض يترحّم على فساد زمان، وأيام زمان..!
لازلنا نحاول النجاة بقارب أو سفينة، لعل وعسى أن ننجو من كارثة نعيشها ولا ندري إلى متى؟! لا جبل هنا ولا شاهق.. لا تلة ولا شجرة تعصمنا مما نحن فيه.. نحن أمام طغيان يعتاش على الموت والدم والنهب والفساد المهول.. يجرف من يجد في ممشاه ومجراه.
نصمد ونُقاوم الكارثة.. ننتظر أن ينحسر هولها لنتمكن من النجاة والعبور ببقايا وطن إلى مأمن أو ملاذ.. هذه الحروب الكارثية تعتاش على القتل، والنهب والفساد والدمار والخراب الكبير، ولا تريد أن تنتهي أو تشهد زوالاً غير زوالنا نحن، أو تلاشي وعينا بالزهايمر والنسيان، وفقدان الإحساس والشعور.
رحم الله “حميد” وتغمّده بواسع رحمته.
***