(16)
سوق الخميس والعولقية !!
أحمد سيف حاشد
عندما كنّا أطفالا في القرية، كنا ننتظر يوم الخميس بفارغ الصبر، ولو طلبت الأقدار منّا التمنّي بما نرغب ونشتهي، لطلبنا منها أن تجعل كل أيامنا خميسا لا ينقطع ولا ينتهي..
كان يغمرنا الفرح حالما نرتاد سوق الخميس.. ننتظره بشوق ولهفة.. كان هذا السوق بالنسبة لنا نحن الاطفال أشبه ببازار أو كرنفال بهيج.. الخميس يوم زاه ومميز في أيام الأسبوع.. لولا هذا اليوم لاختلطت أيامنا حابلها بنابلها.. كانت أيام الخميس تيجان أيامنا، وفواصلها البهيجة.. أيامنا القادمات والذاهبات ليس لها معنى بدون يوم الخميس.. يوم الخميس فسحتنا الجميلة التي نرى فيها ما لا نراه ولا نسمعه في الأيام الأخريات..
كان الهدير والصخب يميز هذا المكان وهذا اليوم البهيج.. إنه المكان الذي يجتمع فيه الناس.. يتقاطرون عليه من كل حدب وصوب.. يقطعون المسافات البعيدة، ويتجشمون مشقة التضاريس، ويتحدّون حدود التشطير، ويلتقون في سوق الخميس.. يسلِّمون على بعض بلهفة واشتياق، ويتحدثون إلى بعضهم بحفاوة وحرارة..
يكتظ مركز السوق برواده، وتمتد أطرافه.. يموج بالبشر والسلع.. بيعا وشراء وحياة تدب فيه دبوب.. تسمع هدير وهمهمات السوق قبل أن تراه أو تصل إليه.. صخب وجلبة وحياة ونشاط دؤوب.. يبتاعون ويشترون .. يتحدثون ويقهقهون..
بعضهم يتناول فطور الصباح، وبعضهم يحتسي الشاي والقهوة، وبعضهم يتناول وجبة الغداء في عز النهار.. هناك مقهى لـ “دولة” وهي امرأة بيضاء فارعة الطول، مليحة الوجه وزاد الوشم فيه جمالا وتأنقا.. ولم تكن جائحة التشدد والتزمت بعد قد وصلت إلي قرانا، ولم يكن يومها الخمار يُضرب على وجوه النساء، وكانت العفة والبراءة والطيبة هي التي تسود دون خدش حياء أو تعرّض لتحرش، أو وجود ما يفسد البراءة والحياة..
في سوق الخميس كان هناك مقهى لـ”رُكيز” الرجل المبتسم الطيب، الذي تشعر وأنت تراه بالألفة والرضى والارتياح.. كان ما تصنع يداه من الطعام مشتهى، وقهوته تحسّن الكيف وتعدّل المزاج.. وهناك حميد أنعم الرجل الفقير والطيب، يبيع الماء البارد والليم الحامض ؛ ويعلن بصوته الرخيم “البانهيس.. البانهيس”..
كثيرون في السوق يعلنون ويروّجون لسلعهم، وأحيانا يعتلي “المطرِّب” مكان مرتفع من السوق، وتسمع إعلانات للموالد والمناسبات أو ما يهم الناس من شأن عام، ويُستهل إعلان المناسبات بـ “الحاضر يعلم الغائب..” جميع هؤلاء الناس رحلوا، ووجدنا اليوم أنفسنا في حضرة الحرب والخراب والدمار والدماء، وسط الأوغاد واللصوص والمجرمين والفاسدين.. يا إلهي كم كانت تلك الأيام جميلة، وكم كان ناسها طيبين..!
***
كانت أيام الخميس بالنسبة للأطفال الذين يرتادون السوق أعيادا بهيجة.. ولكن إحداها بالنسبة لي كان يوم غضب وعراك.. كان المجنون على عبدالله نائف، ويُدعى “العولقية” مشهورا لدى الاطفال.. كانت تداهمه نوبه توتر وتشنج عصبي.. حركة انفعال تهب فيه فجأة، وفيها نوع من العدوانية، وافراغ شحنة من التوتر والغضب، تصاحبها اطلاق كلمات شاتمة وألفاظ سباب، ويستحضر فيها اسم “العولقية”..
الحقيقة لا ندري ما سر هذه “العولقية” في حياة هذا “المجنون”!! وما علاقته بها!! ليتم تسميته باسمها!! “العولقية” هي اللغز المغلق في حياة هذا الرجل المبتلى بحالة نفسية وعصبية وضربا من الـ “جنون”..
تذكرت هذا، وأنا أقرأ قصة نجيب محفوظ “همس الجنون”، والذي كتبها في ثلاثينات القرن الماضي، متقمصا الحالة، وفيها يحاول الإجابة على سؤال ما هو الجنون؟! كتب في مستهلها: “إنه فيما يبدو حالة غامضة كالحياة وكالموت، تستطيع أن تعرف الشيء الكثير عنها إذا أنت نظرت إليها من الخارج، أما الباطن، والجوهر، فسر مغلق”
كان “المجنون” “عولقية” يشكل هاجسا قلقا وخوفا للأطفال في السوق.. كانوا يذعرون منه عندما يشاهدونه.. وكان أحيانا يهاجمهم ويلاحقهم، دون سبب، لاسيما إذا انتابته الحالة، فيهجم ويضرب بيده من يجده أمامه من الاطفال، ويواصل سيره دون أن يعير بالا لأحد..
وفي بعض الأحيان كان يراجم بالحجارة، ويقوم بحركات متعدية، تجلب الفزع والخوف للأطفال، وأحيانا يعترضه الكبار، ويصرخون في وجهه: “بلا جنان فجّعت الجهال” لا أدري في الحقيقة لماذا يفعل هذا؟! لماذا عدوانية هذا “الجنون” تتجه في شطر منها نحو الأطفال؟! هل ألحق الاطفال فيه يوما اعتداء أو أذى أو استفزازا مثيرا؟!! لا أدري!
ومع هذا “المجنون” كان لي قصة.. لا أدري كم كان عمري يومها عندما تفاجأت وهو يشق الزحام في السوق، ويسكع رأسي من قفاي بضربه قوية.. لا أدري كيف ركبتني نوبة غضب وانفعال “مجنون”.. اعتركت معه، وكان المجنون يطلب من الناس التدخل لفض العراك ويسألهم: ابن من هذا المجنون؟!! فيما كان الأطفال يحيطون بنا، ويتابعون ما يحدث..
تدخّل الناس وفضّوا العراك.. بدا لي يومها أن الجنون مع الجنون يفلح.. تذكرت هذا قبل سنوات، وأنا اشتبك بالكلام مع بعض المجانين، غير أنني اكتشفت مؤخرا أن لا تضيّع كثيرا من وقتك بمراجمة المجانين، أو لا بأس أن تعترك معهم، دون أن تكف عن البحث عمن يقف وراءهم، وداعميهم.. فإذا وجدتهم عليك بهم، هؤلاء الأوغاد يستحقون الجنون، وحتى النتائج مهما غلظت وعظمت عليك، لها استحقاقها وبعض من واجب تؤديه..
بدأ “العولقية” يسأل عن والدي، وعندما دلُّوه عليه، وكان معروفا في السوق، شكاني إليه وقال له: “
– معك ابن مجنون.. شوف ابنك ايش فعل بي! ..
وكان يعرض على والدي قميصه المقطوع، وأثار الأظافر والخربشة على يديه وبعضا من أجزاء جسده!.. غير أن الأطفال الموجودين، ومنهم ياسين عبد الوهاب أنجدوني بشهادة لصالحي، وشهدوا أن “العولقية” هو من بدأ بلطمي في رأسي، وبتلك الشهادة، نجوت من عقاب قاس كان ينتظرني من والدي المعهود بالشدة والصرامة.. من يومها قيل إن “عولقية” كف عن العدوانية حيال الأطفال..
رحل “العولقية” قبل سنوات قليلة، وقيل إنه تعافي من حالته النفسية قبل أن يموت.. ولكن لم تمهله أمراضه الأخرى كثيرا من الوقت.. لم أره منذ وقت بعيد.. رحل عن الحياة بهدوء.. رحمة ربنا تغشاه..
***
كانت البراءة في تلك الأيام غامرة، وكانت حرية المرأة أكبر، والسواد على النساء لا نراه إلا بثوب “الثبيت” الجميل قبل أن تفتك بنا الوهابية والأفكار السلفية المتشددة التي جاءت من خارج اليمن في مستهل الثمانينات..
لازلت أذكر كلمات عمتي “سنبلة” أم عبده فريد مع أحد مسوِّقي التشدد والتزمُّت في قرانا في تلك الأيام، حالما كان يحاول أن يسلّم عليها بطرف أصابعه، وهو يلفها بخرقة القماش التي كان طرفاها مسدولين على جانب يديه ومدوره على عدنيه من الخلف..
فقالت له:
– إلى أمس يا ابني وأنت تبول فوقي.. كنت “أبوّلك” و”أخرّيك” واليوم لا تريد أن تسلِّم عليّ إلا بالمشدة.. أني مثل أمك.. من أين أتيتم بهذا الدين؟!!
لقد كان احتجاجا قاسيا على هذا الجحود والتصرف السطحي الذي أبداه هذا الصغير على مرأة بسن ومقام أمه.. ولكن كان هذا الجحود يتم باسم الدين، وقد اغتالوا البراءة والطيبة التي كانت تسود..
***
يتبع..
الصورة لبقايا أطلال سوق الخميس الذي تلاشى أو صار أثرا بعد عين..
الصورة منقوله من إحدى صفحات فيسبوك أبناء القبيطة لم أعد أتذكر اسم المصدر تحديدا
صفحة احمد سيف حاشد على تويتر 2
حساب احمد سيف حاشد على الفيسبوك
صفحة احمد سيف حاشد على الفيسبوك
قناة احمد سيف حاشد على التليجرام
مجموعة احمد سيف حاشد على التليجرام
Ahmed Seif Hashed’s Facebook page