طيران بلا اجنحة .. البداية
برلماني يمني
أحمد سيف حاشد
جزءٌ من طفولتي الأولى في عدن تذكّرتُ بعضها بيسر وسهولة، وبعضها بصعوبةٍ جمة، وأخرى استقيتها من روايات أمي في مراحل مختلفة من حياتها عن تلك المرحلة الباكرة من حياتي وطفولتي، دون أن يخلو هذا من محاولة تحرٍ طال بعد مقاربة، ثم مراجعة أستمرت، ومطابقة بعد تعديل، واستذكار بعد نسيان، وتصحيح بعد خطأ، وإنعاش ذاكرة ماتت بعض أطرافها؛ وذلك لرسم ما استطعت من ملامح تلك المرحلة الباكرة، واستحضارها والكتابة عنها، ورغم ما أعترى تلك المرحلة من حزن وبؤس، إلا أنني أكتب عنها، واستحضرها هنا دون أن يخلوا هذا الاستحضار من أنسام حنين، ورغبة جارفة، ووجدان مشتعل.
بعد سنين من عمل أبي في شركة (البس) بعدن، جاء بنا من القريةِ لنكونَ معه وإلى جواره في المدينة، وقد وفّر له ذلك العمل قدراً من الدخل المحدود والمستقر، لِيلُمَّ به شملنا، ويفي باستقرارٍ معيشي متواضع لنا في عدن، وقد جاء بعض من هذا الحال على حساب صحته في المقام الأول، وكان هذا إيثاراً منه لم نعلمْه إلّا بعد نوباتِ سُعال متكررة، كانت تجتاحه وتنتابه بين حين وآخر.
كان سعاله يبلغ ذروته، فيتورم وجهه، وتشتد حمرته حتى يصير قرمزياً، وتنتفخ أوداجه وعروقه حتى تبدو وكأنها على وشك أن تنفجر من وجهه وعنقه كنافورة من الدم المحبوس والمضغوط بنوبة سعاله وانتفاخ رئتيه..
يبدو وهو في ذروة سعاله على وشك أن يخر صريعاً من مقعده، أو يقع إن كان قائماً من طوله، وهو مستند على وجه الجدار بإحدى يديه، فيما ترى راحة يده الأخرى حانية على جبهته.
في عدن أقمنا في منطقة (دار سعد)، وقد سميت بهذا الاسم حسب المصادر نسبةً للأمير سعد بن سالم. وهي إحدى ضواحي عدن. كان عُمري حالما انتقلت من القرية إلى دار سعد سنتين وبضعة أشهر على الأرجح، ومعي أمي وأُختان توأم هما (نور وسامية)، وعمرهما أقل من عام، سكنَّا منزلاً صغيراً استأجره والدي، يتكون من غرفةٍ وحمّامٍ، ومطبخٍ، وصالة.
فيما بقيت خالتي زوجة أبي الثانية “سعيدة” المسكونة بالطيبة والصبر في القرية “شرار”، وكانت خالتي قد أقامت بعض الوقت في عدن مع أبي قبل أمي، ولكنها لم تتكيف مع عدن، لاسيما تقييد حريتها في البيت، وهي المتعودة على حياة القرية وفسحها على غير ما كان عليه حالها في عدن، ولذلك قالت:
ماشتيش بلاد الناس ولا جلوسه
أشتي بلادي أحب لي شموسة.
أمّا ابنها علي، وهو أخي من أبي، فكان قد هرب من أبيه ومن عدن قبل نزولنا إليها، متجهاً إلى صنعاء في العام 1963 وعمره خمسة عشر سنة، وألتحق بالكلية الحربية بصنعاء الدفعة الثانية.
***