طيران بلا اجنحة .. طيران بدون أجنحة..!
برلماني يمني
أحمد سيف حاشد
أبي وأمّي .. جدّي وجدتي.. لولا هؤلاءِ لما أتيتُ إلى هذا الوجود، وكنتُ في حكم العدمِ.. وينطبقُ هذه على التراتُبياتِ كلّها.. إلى كلِّ الأجيال.. إلى الجذر الأول.. إلى الإنسان البدائي على أي نحو كان.
ماذا لو أجهضتني أمِّي في بطنها، حالما كنت لا أعي، ولا أفقهُ شيئاً ولا أبالي بألم، أو بضيق وحسرة؟! ماذا لو انتحرتُ يوماً، أسحقُ فيه أنانيَّتي، وغريزةً تتشبث بحياةٍ من جحيمٍ، أبقتني مثقلاً بمعاناة بالغةٍ، وآلامِ عمرٍ مُجهد، امتدَّ طويلاً حتى شارف على بلوغِ كهولته؟!!
ماذا نقول عمّا سمُّوه قتل الرحمةِ إشفاقاً بصاحبه، وخلاصاً من ضيق أضيق من لحد، أو عاهة شديدة، ومستحكمة، أو مرضٍ أدركهُ اليأسُ، وألمٌ يلسعُ كالنارِ، لا يُوقفه إلاّ عتقُ النفسِ وتحريرُها من محبسِها الجسدي الأشدّ والأضيق من محبسِ قفل..؟!!
***
كم هي الصدف التي أنتجتها أو حركَتها الضروراتُ في عملية طويلةٍ ومعقَدةٍ، وربما محيَرة جداً تفوق الخيال؟! سلسلةُ طويلةُ من الصدف، والضروراتِ لا تكُف ولا تتوقفُ، لا ندري بدايتها الأولى، ولا ندري إلى أين تسيرُ، ولا ندري أين سينتهي بها المآل..! المكانُ لا يكِفُّ عن السير، والزمنُ يتسرمد، ولا ندري عمّا إذا كان إلى الأبد أم لا.. مآلات الكون غامضةٌ ومجهولةٌ، وما بلغه العلم حتّى اليوم مازال قطرة من محيط هادر.
لماذا من علِق منّا في رحمِ الأم، وتخلَّق تسعة أشهر، يخرج إلى واجهةِ الكونِ صارخاً بالبكاءِ؟! هل هذا البكاء أو الصراخ إعلانُ وجود، أم هو رفضٌ واحتجاجٌ على هكذا وجود؟! هل هو فزعٌ من العالم أم خوفٌ من مجهولِ؟! أم هو كما قيل استقبال حياة المولود بمس شيطان؟!
لماذا لا نخرج إلى واجهةِ الكون الفسيح مملوئين سروراً وفرحاً نعبِّر عنه ضحكاً وقهقهة، أو حتى ببسمة تنبئ عن رضى وتفاؤل ترتسم على الشفاه، تُعلمنا أن لا خوف من مجهول، وأن المستقبل لن يخذل صاحبه؟! لماذا المولودُ من بني البشر لا يستهلُّ حياته إلاّ بصرخةِ بكاءٍ حادةٍ؟! هل صرخةُ البكاء تعبيراً عن عدم رغبة في وجود نأتي إليه، أم هو رفض وجود لم يكن لإرادتنا فيه شأنٌ أو خيارٌ؟!.. أم إن الأمر غير هذا وذاك؟!
يحاولُ أنْ يجيبَ الشاعرُ والكاتبُ المسرحي الإنجليزي وليام شكسبير بكلمات مشبعة بخليط من السخرية والحكمة: “في لحظة الولادة نبكي؛ لأننا قادمون إلى مسرحٍ مكتظٍ بالحمقى”.
***
بين صرخةِ الولادةِ وشهقةِ الموت أو الرحيل، عمرٌ مُثقلٌ بالمعاناةِ، وعَالَمٌ من المتاعبِ والأحزانِ، والأشياء، والتفاصيلِ.. عندما تتعثر خطاك على الدوامِ، ويلحقُ السوءُ بحظك كلعنةٍ لا تفارقك، وتخيب أمنياتُ حياتك، وتبطش بك الأقدارُ يميناً وشمالاً، وتصيرُ فريسةً للحرمانِ والمتاعب؛ هل تكفرُ بنعمةِ مَنْ كانَ سبباً ومعجزةً في وجودك أب أو جد، أو تلعن تلك الصُدفة التي تخالها أنها جلبت لك كلَّ ما هو تعيسٌ وخائبٌ؟! أم تمتن وتطمئن وتسلّم بكل حال؟! أم أن الأمر غير هذا وذاك؟!
أسأل نفسي: كيف أطير دون ريش أو أجنحه، وكل هذه الكواسر والجوارح تريد افتراسي..؟!!! حظي يمضغ بؤسه ويشرب لعنته.. ما ذنبي إن وجدتُ نفسي في هذه الحياة الصاخبة ضحية لوجود غير عادل، وفي المقابل لا أريد أن أكون فيها وحشاً أو جلاداً أو مُنتهكاً لحق حياة نملة، ومع ذلك وجدتُ نفسي بقليل من التأمل مثقلاً بالخطايا والأخطاء الجسام؟!
لا أستطيع أن أتصور أنني كنتُ الواحد من نسبة الثلاثمائة مليون حيوان منوي الذي أستأسد ليبلغ العرين.. صدف تعددت حتى صارت المعجزة التي انبثقتُ منها لواجهة هذا الكون الذي نسأل عن خالقه، ربما حد التيه أحياناً.
وجودي لم أختره ولم أعِ اختياره، ولم أعِ كيف كان الوصول إليه.. لم أكن مدركاً وأنا أشق الزحام والمشقة للوصول إلى البويضة الحاضنة لأعلق فيها، وأكون جنيناً.. الحقيقة أنني لم أعِ شيئا مما حدث.. هل كان وجودي قسراً..؟! لم يسلني قبل مجيئي أحد عنه.. أنا لم أختار وجودي، ولم أكن أعلم شيئا عن حياتي التي ستأتي..
هل هي صدفة بنسبة فارقها يفوق خيالي، أو هو حال بلغ مبلغه على نحو يستصعب تصوره؟! ربما تبدو لي تلك الصدفة أقرب إلى استحالة وجودية، ولكن كسرها وجودي القسري، وأمّا حياتي فباتت مثقلة بالتعاسة والمعاناة، وربما بالخطايا التي ليس لها شفاعة أو غفران.. خطايا لم أكن أعيها إلاّ بعد أن باتت تتكاثر وتتناسل على نحو لا أدري ولا أعلم لها ولأثارها حد أو نهاية.
ربما وجدتُ وجودي عبئاً أو فائضاً عن حاجة هذا الكون المليء بكل شيء.. ربما رأيت وجودي زائداً عن هذا الوجود الكبير الحافل بالعجب.. ما أراه من رعب وتوحش وجنون في عالمي الصغير، يكفي أن أغادره نادماً ربما حد الجحود أو كفر بنعمة.