مذكرات

رهابي وأنا أقرأ بيان رفض ومعارضة.. أحمد سيف حاشد

مذكراتي .. من تفاصيل حياتي ..

(4)

بقايا رهاب 

أحمد سيف حاشد

أشعر بالارتباك والخجل.. أراقب صوتي فتضطرب نبراته ويختل سياقه.. أشعر أن سكان الأرض يراقبون صوتي المتهدج والمتلعثم، فيما أنفاسي تسابق بعضها وكأنها في سباق “ماراثوني” غير مسبوق.. يعتريني التوتر الشديد حتى أشعر أن حبالي الصوتية تتمزق في مواجهة عاصفة لا تقوى على مقاومتها..

 

روحي المتعبة تبدو متهتكة تحت ضربات عيون من يراني أو يتابع حديثي واضطرابي.. صوت نبضات قلبي ترتفع حتى أخال روحي تكاد تطلع من فمي.. ربما أيضا أتصبب عرقا مهما كان الطقس باردا.. وإجمالا أشعر أن إرباكا كبيرا قد أصابني بحجم زلزال ثمان درجات بمقياس رختر..

 

لكم كانت إشارة الدكتور “دين برنيت” في كتابه المخ الأبله مقاربة لما اعتراني من رهاب وشعور في بعض المواطن.. “دين برنيت” يضرب الأمثلة على بعض الناس المصابين بالرهاب- وأضني واحد منهم في قياس مع فارق المناسبة- يفضلون مصارعة قط بري على أغنية “الكيروكي”.. يرغبون أن يتلاعبوا بقنابل حية من أن يغنون أمام الجمهور .. إذا خيرتهم بين الغناء والمصارعة سيختارون المصارعة من أن يغنون أمام الجمهور..

***

 

أخفقتُ في الحب مرارا بسبب طغيان خجلي ورهابي.. فقدتُ أكثر من حب في حياتي.. عشت الحب الناقص أشتوي على صفيح ساخن.. تفحمتُ بتكرار وأنا أصطلي بخيباتي الكثيرة.. تبخرت الكثير من أحلامي بسبب هذا الخجل والرهاب اللذان نالا مني سنوات طوال.. وربما أيضا أهدرتُ فرص عديدة كان بإمكانها أن تغيّر وجه حياتي.. صدمات وخيبات كثيرة ضربت أوتادها في أعماق روحي المدنفة.. أنشبت أظفارها في رأسي الذي أثقل كاهلي حتى وجدتُ نفسي أحيانا أسحبه بعدي بمشقة بالغة..

 

الخجل والرهاب الاجتماعي مشكلة عميقة أعاني منها منذ الصغر.. اعاقه نفسية لطالما عانيت منها في حياتي، بل هي أكثر من إعاقة ألحقت بي كثيرا من الهزائم التي كان وقع بعضها شديدا على روحي ومستقبلي وفرصي المُهدرة..

 

لطالما أحسست أنني معاق من رأسي إلى أخمص قدماي.. أشعر أن كل عضو وعصبة وعضلة في وجهي وأطرافي الأربعة تخذلني في أشد اللحظات التي أكون بحاجة لحوحة للثبات والتماسك.. أشعر باضطراب جهازي العصبي برمّته، بل أشعر بما يجتاح كياني ويملؤه اضطرابا، وأفشل على نحو ذريع في السيطرة عليه كقدر بات عصيا على المقاومة..

 

خليط من الخجل الشديد والرهاب الاجتماعي الأشد لازال يداهمني ويتكرر معي بين حين وآخر قد يقصر أو يطول، أو يعاود الظهور بعد انقطاع ونسيان، وربما أجده أحيانا لازال يتربص بي وأنا في هذا العمر المديد إلى درجة أخال الحقيقة كلها في قول فولتير: “الخجل هو شبح لا يمكن هزيمته”.

***

 

في جلسة مجلس النواب المنعقدة في 13 أغسطس 2016 والخاصة بمباركة تشكيل المجلس السياسي الأعلى، كنتُ الوحيد بين الحضور الذي أعلنت موقفي ببيان يؤكد عدم دستوريته، ورفضتُ فيه الحرب والعدوان، ولجو الأحزاب والقوى السياسية المحلية على مختلف توجهاتها إلى خيار العنف المسلح لحل الخلافات السياسية فيما بينها، وكذا الاستعانة والاستقواء بالخارج أو الدعوة إليه.. احتجيتُ على الجميع، وأدنتُ الجميع بما فيهم سلطة الأمر الواقع في صنعاء، وربما كنت أول من أستخدم هذا المصطلح الذي أغضب يومها نائب رئيس المجلس في إحدى الاجتماعات التي لم يتم بثها.

 

داهمني رهابي في تلك الجلسة العلنية بسطوة وطغيان.. لازال ذلك الأخدود عميقا في نفسي عندما عايرني بعض زملائي في المجلس وآخرين خارجه؛ ومنهم أحد رفاقي الذي شاهدني على شاشة التلفزيون حالما كنت أقرأ بيان رفضي واعتراضي على تشكيل المجلس السياسي الأعلى في صنعاء لعدم دستوريته وشرعيته..

 

كنتُ أقرأ بياني على نحو عجول، وبنبرة صوت مضطربة، وأنفاس متقطعة تسابق بعضها، ورعشة يدي وأصابعي التي تمسك بالورقة التي أقرأ منها بياني المكتوب استشعرتُ أنها بائنة للعيان، فيما رعشة شديدة أخرى كانت تسري من أسفل القدمين إلى نصفي.. أعترف أنني فشلت في السيطرة عليها أو حتى في استمهالها رغم محاولاتي المتكررة.. كان يلاحظ حالتي من كان خلفي من النواب، أو قريبين من مكان وقوفي..

***

ورغم هذا وذاك لازلتُ أعتز أنني كنت الوحيد بين جميع الحاضرين الذي قالها “لا” في وجه الجميع، وبكل قوة وإرادة وحضور.. كنتُ صاحب البيان الوحيد الذي عارض ما يجري شرعنته في مجلس لم يحترم نفسه، ولم يحترم الأيمان الغلاظ التي ذرعوها أو أطلقوها أو قطعوها على أنفسهم من واجهة هذا المجلس..

 

كنتُ صاحب الموقف الأهم والصلب والمختلف الذي لم ينصاع ولم يوارب ولم تعتريه ضعف أو هشاشة.. الموقف الصارخ الحاضر في قاعة البرلمان والرافض بشدة لشرعنة الغلبة، أو تمرير ما رأيته خرقا فضا للدستور والقانون والضمير، وهو ما ينسجم تماما مع حقيقة صوتي وما يمليه ضميري الحي في لحظة كانت شديدة الصعوبة والتعقيد..

 

رغم رهابي أجد نفسي أسحق نفاقي كل يوم.. أتمرد على مخاوفي وأثور.. أغامر وأجازف من أجل ضمير أتعبني وعذّبني وأثقل كاهلي، إلا أنني لم أتخلَّ عنه يوما، بل عشتُ صراعاته مع خصوم يملكون كل شيء، فيما أنا أعزل لا أملك غير أمل وقلم وحلم كبير لازال بعيداً وربما عصياً على التحقيق..

 

ما أصابني من رهاب لا يقارن بما أصابوه.. ولا مقارنة بين ما حدث منّي وما أحدثوه.. كثيرون هم الساسة والنواب وخلال عمر هذا المجلس، الذين وضعوا أيديهم بثبات على القرآن، وقد أقسموا اليمين بالله العظيم أمام الأشهاد، بأنهم سيحافظون على الدستور والقانون والنظام الجمهوري والوحدة والسيادة والاستقلال ثم ما لبثوا أن حنثوا به بعد يوم أو عام..

 

جلّهم تنكروا لتلك الأيمان، بل وتغوط بعضهم عليها، وبعضهم فسدوا وأفسدوا حتى غرقوا في الفساد إلى شحمة الإذنين وشعر الرأس، والبعض حملوا الخيانات في بطونهم، وربربوها في أحضانهم، وحملوها على ظهورهم، وجبوا وجلبوا منها المال الكثير، بل وأعتاشوا على الخيانات، ومكروا بشعب ووطن حتّى نكبوه، ولا نعلم كم نحتاج من العقود والسنين لنستعيد وحدته ومستقبله وأحلامه الكبار..

***

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى