مذكرات

(4) يوم في الجحيم أحمد سيف حاشد

مذكراتي .. من تفاصيل حياتي .. يوم في الجحيم .. أحمد سيف حاشد

(4)

يوم في الجحيم

أحمد سيف حاشد

غياب تلك الأيام القليلة جعلني أحس بغربة المدرسة.. إنقطاع رغم قصره جعلني أشعر أنني غريب عن أقراني الطلاب.. ربما كان حالي أشبه باليوم الأول التي أرتدتُ فيها هذه المدرسة.. انطوائي وخجول وأشعر بالوحدة والغربة والإنزواء..

استدعاني الأستاذ للحضور أمامه.. وبمجيئي نهض واقفا ومتحفزا.. بدأ على نحو استعراضي، ولكني أحسست أن في داخلة مرجل يغتلي.. بدأ يحوم عليّ وعصا الخيزران تهتز بيده متحفزة لتقتاتُ من جلدي الذي يكسوا عظامي المنهكة..

كان يتحفز كضابط شرطة وجد من يبحث عنه بعد أن كد العمر في البحث والتعقُب، وتعويضا لخيبة لطالما أمتدت وأستمرت.. ضابط أعيته الحيلة وخابت الوسيلة في القبض على من يبحث عنه سنوات طوال، وعندما وجده أراد أن ينتقم لسابق فشل ذريع وخيبة كبيرة.. كان يهز الخيزران في وجهي كأنه ظفر بخصم لدود انتظره دهرا، وتحيَّن زمناً لمنازلته وسحقه.. أراد تحديه أن ينتصر على نحو ساحق وماحق.. أراد تحديه أن يلحق بي هزيمة منكرة..

كنت منهكا ونحيلا وخائر القوى.. لاحول لي ولا قوة أمام مجهول ينتظرني لا أدري قدره، وكيف سيكون!! كلما أرجوه في سرّي وكتماني أن يكون أقل مما هو مُهلك ومميت، فيما الاستاذ يتبدّى لي مكظوما بالغيظ الشديد، والغل الذي يأكل صاحبه.. متحفزا جدا، ولا يدري من أين يبدا بسحقي..

فكّر برهة، ثم أختار بعناية أربعة من أشد تلاميذه غلظة وقوة، وأمرهم أن يمسكوني ويسقطوني أرضاً، ويرفعون قدماي مضمومتين إلى الأعلى، ويمنعونني من الحراك..

قلعوني من الأرض كنبتة صغيرة منهكة.. صار رأسي مضغوطا عليه للأسفل، وقدماي مرفوعتين إلى الأعلى.. أحسست أن فارق الكتلة بيننا يكسر المقارنة.. إنهم يفرطون في استخدام القوة إلى حد لم أكن أتخيله.. إفراط عبثي مغالى وساحق.. لا مقارنة بين ضآلتي وأربعة بدو لي أعفاطا، وصرت بينهم متلاشيا، أو أكاد أن أتلاشى بينهم بالتكوّم والضغط.. تلاشيت باكتظاظهم المزدحم.. كانوا يفعلوا ما يفعلوه وهم بذروة الانتشاء، والبرهنة على الولاء الجموح..

شلوا يداي وحركات جسدي بأيديهم الكثيرة، وأناخ ثقلهم على كاهلي الصغير والمنهك.. وضع بعضهم ركبهم الحجرية على بطني الخاوية، وصدري المكظوم والمختنق.. كادوا أن يمنعوني من التنفس.. أحسست أن الهواء الذي أسرقه من زحامهم صعب وقليل.. ما أبخلهم حتى على الهواء الذي أتنفسه!! كأنهم مرابين يمنحوني الهواء مُقسطا ومقترا.. بخل بلغ أوجُّه..

هوت لسعات الخيزران بشدة على قاع قدماي، كأنها حمم من جهنم صبها الله على بطن أقدامي الدامية الأظافر.. إنها ليست عقوبة (الفلكة) المعتادة، ولكنها (فلكة) من جحيم.. تعدَّت شدتها كل معقول، بل وأضعاف ما طال أكثر التلاميذ إهمالا وتقصيرا وغباء في المدرسة.. لقد اسميت ذلك اليوم بعد زمن “يوم في الجحيم”..

انتهوا من وليمتهم المرعبة على جسدي الضئيل.. تورمت قدماي.. احتقانات حمراء تكاد تهر دما.. نفطا بيضاء تتشكل في قاعهما وجوانبهما.. قدماي التي يفترض أن تحملاني إلى البيت صرت أنا من يحملها، وكأنني أحمل جبل أثقل من جبل “أُحد”..

أمشي عاثرا الخطى.. وأحيانا أسحب جسدي كالكسيح.. أسير عشرين خطوة أو دونها ثم أستريح قليلا لأعاود السير لعشرين أخرى.. كانت رحلتي تلك أشبه برحلة في الجحيم.. المتر والاثنين بات له معنى في هذا المسير الثقيل.. عشرين بعشرين دواليك، إلى أن وصلت للبيت بعد طلوع الروح..

كنت أظن أن العقاب قد أنتهى عند هذا الحد، وخصوصا أن الأستاذ قد أبلغ والدي أنه قد عاقبني بما أستحق وفيه الكفاية، غير أن والدي الذي كنت آمل أن يخفف عنِّي ما أوقعه الأستاذ من عقاب، وجدته أكثر أفراطا بالعقاب من الاستاذ.. بدا حالي واستجارتي بأبي (كالمستجير من الرمضاء بالنار).

***

وصلتُ إلى باب دارنا، وكان أبي في الانتظار.. أقترب منّي بخطوات متهادية.. ظننت أن الله رحمني، وساق في أبي معجزة تغاير ما أعتاد عليه، أو ربما ظننت أن شفقة ما قد اجتاحته أو تفجرت داخله، وخصوصا أنه شاهدني حسيرا، أو أسير متعثرا بخطواتي المعاقة، لا أقوى على حمل قدماي إلا بصعوبة ومشقة بالغه، ولكنه باغتني بحركة لم تكن ببالي وحسباني..

فرج رجليه وخفضها كثيرا.. أنحنت قامته إلى دون قامتي.. وضع كتفه الأيمن في أعلى منتصف قامتي، ونهض لأجد نفسي معتولا، ومعطوفا على ظهرة كحرف الواو المقلوب، ويداه ممسكتان بالساقين، وقدماي ترمحان كعصفور مذبوح أمام وجهه، وهي مقلوبة ومرفوعة قليلا إلى أعلى من قامته، ورأسي متدلي على ظهره كخروف مذبوح..

حركة أبي بالنسبة لي كانت مباغتة وصادمة.. اجتاحتني نوبة هلع، لاسيما أنني لا أدري ماذا سيفعل بي؟! وما عقد عليه عزمه؟! زاوية الاستدارة التي شهدتها بدت لي استدراه كونية لكل ما هو حولي.. صرت أرى الأشياء من وضعي مقلوبة رأسا على عقب، ومغايرا لما أعتاد الناس رؤيته!! أدركت أن هناك عقوبة جديدة أكثر وحشية تنتظرني، ولكن لا أعرف ما هي!!

كنت أصرخ بهلع فاجع ومتعاقب دون فاصل، فيما أبي ذهب بي نحو شجرة السدر القريبة من باب دارنا، وكان الحبل عليها معدا وجاهزا لتعليقي.. ربط قدماي بالحبل، ورفعني إلى فرع الشجرة، ورأسي متدليا إلى الأسفل.. كانت هيئتي كشاة مذبوحة عُلِّقت للسلخ أو الخلس..

كنت أصرخ وأستغيث ببكاء صارخ يفلق الحجارة، لعل منجد قريب يهرع إلى أبي وينجدني مما أنا فيه، إلا أن لا منجد وجدت ولا مغيث هرع.. الكبار كانوا يشاهدوا ما يحدث من سطوح بيوتهم وأبوابها مغلقة بصمت القبور، وربما طل البعض برؤوسهم من الطيقان والمفارج، فيما فاجئني أبي بالمزيد.. ضرب عنيف بعصى على ظهري وبطني وسيقاني، ولا من يهرع لإنقاذي.. كانت أمي في الجبل، وكان صراخي يشق السماء، ولسعات العصا تنهش في جسدي كضبع جائع ينهش في فريسته..

ربما بدا صراخي أشبه بإعلان مجاني، ودعوة للأطفال والنسوة ليشاهدوا المنظر الذي لم يألفوا ولم يعتادوا على مشاهدته حتى برأس العام أو العامين والثلاثة، بل لم يشاهدوا مثله في حياتهم من قبل.. بدا مشهدا عجيبا يسترعي المتابعة باهتمام، بل والحرص على عدم الغفلة أو افلات عيونهم للحظة منه.. مشهد لم تعتاد عليه قرانا مهما كان الابن متمردا وعاقا أو حتى مجنونا..

هرع بعض الأطفال إلى مكان قريب ليروا تفاصيل أكثر عن هذا المشهد الغريب الذي يشاهدونه للمرة الأولى.. كان الأطفال يشاهدوا المشهد وكأنه سينما يحضروها للمرة الأولى، وفلم يشاهدونه لأول مرة، ومجانا دون مقابل.. أما أنا فلا زال المشهد عالقا في ذاكرتي إلى اليوم، ولكن ومع ذلك لا أحمل لأبي اليوم إلا كثيرا من الحب والسماح..

بعد أن أفرغ ابي جام غضبه، ظللت معلقا على الشجرة حتى هرعت أمي من الجبل لنجدتي وفك وثاقي وجاءت بعد حين غير قصير..

اليوم أطراف الصراع تفعل بنا وبوطن مستباح أكثر من هذا بألف ضعف وضعف.. قسوة الأمس في جوهره كان بدافع التربية مهما كان الفعل خطأ ففي حسن النية عفوا وشفاعة، أما ظلم اليوم وقسوته فهو بدافع الأنانية المفرطة.. اليوم تآزر علينا فساد ونهب لا سابق له، وظلم وقسوة أكبر من المستحيل، ودول مدفوعة بفاحش أطماعها ومصالحها الأنانية والمغالية، وساديتها العابثة والمرعبة..

الجميع نالوا منّا ومن الوطن ما لم ينله سابق ولا لحق.. تكالب علينا أشرار العالم كلّهم، والبقية يتفرجون، وليس لنا أم تهرع من واد أو جبل لتوقف هذه الحرب الضروس، وهذا الحصار المميت، والنهب والفساد المهول، وهذا النزيف الطويل..

 

***

يتبع..

 

موقع يمنات الاخباري

موقع برلماني يمني

صفحة احمد سيف حاشد على تويتر

صفحة احمد سيف حاشد على تويتر 2

حساب احمد سيف حاشد على الفيسبوك

صفحة احمد سيف حاشد على الفيسبوك

قناة احمد سيف حاشد على التليجرام

مجموعة احمد سيف حاشد على التليجرام

“Yemenat” news site

MP Ahmed Seif Hashed’s websit

Ahmed Seif Hashed “Twitter”

Ahmed Seif Hashed “Twitter”

Ahmed Seif Hashed “Facebook”

Ahmed Seif Hashed’s Facebook page

Ahmed Seif Hashed

Ahmed Seif Hashed channel on telegram

Ahmed Seif Hashed group on telegram

 

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى