مذكرات

السلسلة الخامسة.. أبي .. أحمد سيف حاشد.. منكوبون بالبطالة وبطالة اليوم كارثة مستمرة(1)

مذكراتي.. من تفاصيل حياتي..

السلسلة الخامسة

.. أبي ..

أحمد سيف حاشد

منكوبون بالبطالة وبطالة اليوم كارثة مستمرة

(1)

بعد سنتين من إقامتنا في عدن استغنت شركةُ “البِس” التي كان يعمل فيها والدي عن عددٍ من العمّال، وكان أبي من ضمنهم.. مصابٌ جلل، وقدرٌ بات أكبرَ منّا.. أيُّ نكبةٍ أصابتنا يا الله؟! يا لسوء الطالعِ وعاثرِ الحظّ.. خوفنا مما هو قادم ومجهول بات يزداد ويتسع!! أبي فقد عمله، ولا بديل يعوضه، ولا من يسدُّ لنا هذا القدَر الّذي بدا أمامنا ثقبا أسودا، وفراغا كونيَّاً يريد ابتلاعنا وتغييبنا في مجاهل الجحيم..

 

لا رجاء يسعفنا، ولا بارقة أمل تلوح في الأفق.. وجُومٌ في السماء، وكلَحٌ في الأرض، ويأس يتمطّى في الشرايين.. لم يعُد هنالك من مصدرِ دخلٍ لنا.. ظروفنا ازدادت سوءًا وانحدارا، وزدنا نحن عوزا وفاقة.. لم يكن أمام أبي من خَيارٍ إلّا أنْ يعودَ بنا إلى قريتنا التي تُهرسُ بؤسا وشقاءً شديدا، ومعاناة تطول، ولا نور في نهاية النفق.. ما أسود الحياة عندما تفقد عملك، وتُقطع أسباب رزقك!

فادحا أصابنا، وفادحٌ مضاعفٌ أصابَ أبي.. مأساةُ أسرةٍ فقد فيها ربها دخله المحدود، وأسرة أخرى في القرية تتضور جوعا، لا دخل لها ولا عوض غير ما يرسل به أبي.. حكم إعدام أنزله علينا القدر دون تروٍ أو مَهَل..

أبي يَهيمُ على وجهه، يبحث عن وجهِ الله لعلَّه يجده.. كان الشعور بالضَّياع وفقدانِ الأمل قاسيا بل وساحقا.. أتخيل الحالَ أنَّ صخرةً بحجمِ كوكبٍ عبوس، قذفتها السماء على رأس أبي، وأصابتنا معه في مقتلٍ أطاحَ بالجميع..

الخَيارات محدودةٌ وصعبة، بل في الحقيقة ليس أمامنا من خَيار.. لا عملَ ولا أيّ فرصةٍ تنجي لقمة عيشنا، وكلَّ ما يمكن أن تفكِّر به من مساعدة غائبٍ ومعدوم.. أنت مبلوع في لُجَّة البحر، بلا يد ولا مجداف ولا حتّى قشة ترجوها أو تمسك بها مسكة غريق.. جميعنا يغرق في التّيهِ والمجهول وأصقاعِ الضياع..

عاد بنا أبي إلى القرية.. وبات المُصاب والألم مضاعف.. أسرتان تعانيان الجوع، وكل شيء فيها عزيز، ولا أمل في انتظار ينقذنا من حالنا البائس، ولم تبق أمام أبي إلّا المُغامرةُ والرحيلُ إلى الغربة؛ يبحث فيها عن فرصة عمل أخرى تسعفنا من حالة البؤس والموت البطيء..

حدث هذا قبلَ استقلالِ الجنوبِ من الاحتلال البريطاني.. ضاقت الدنيا في وجهِ أبي ودلهمّت.. بعد أن فقدنا مصدر رزقنا وما نقتات في عدن عُدنا مع أبي إلى القرية التي جئنا منها، كأسماك السّلمون التي تعود من مهجرها لتموت في مسقط رأسها، أمّا أبي فعليه أن يواصل الهِيامَ والبحثَ عن فرصة عمل.. عليه أن يشقّ البرَّ والبحر؛ ليجد عملا نقتات منه، ولا عذر ليتخلّى عن مسؤوليته، حتى وإن كان مصابنا وقدرنا أكبر من الجميع.. فكانت وجهته هذه المرة إلى “بربرة” في الصومال الشقيق.

***

اليومَ يا أبي أسوأ من أمسه المنكوب.. فما حدث لنا ولليمن تجعل مأساتنا في الأمس رغم كبرها تبدو بحجم رأس دبوس في محيط.. ما نشهده اليوم، هو محيط من العذاب والموت والبشاعة..

نحن في زمن بات وقد تعاظمت فيه مصائبه وبشاعته.. وما كان في الأمس مصابٌ مقدورٌ عليه بممكن أو بمعركة مع المستحيل، بات اليومَ كوارثُ تفوقُ ما تحتمله الجبالُ، بل ولا تقوى عليه اليمن كلُّها، وقد جمع لنا العالمُ، وصبَّ فوق رؤوسنا، كلَّ فساده ورعبه وبشاعته..

 

الفارقُ بين مصائبِ الأمسِ وازدحامِ كوارث اليوم تفوق كل ممكن ومعقول.. اليوم السّنة السابعة نعيشُ حربا ضروسا، وهروبا إلى مزيد من التشظّي والجحيم.. حروب متعددة تشُبُّ وتنشب هنا وهناك بألف رأسٍ وأميرِ حرب.. اليمن باتت نتفا ممزقة بينهم.. كل يقضم منها ما أستطاع؛ وصار السؤال الأهم أين هي اليمن؟! وياتي الجواب الصادم من واقع الحال: كانت هنا يمن..!!

سنواتٌ عجاف أكل فيها شعبُنا دواخلَه، وأكل المجتمعُ الواحدُ بعضَه بعضا، وأكلت النار معظمه.. حروبٌ دميمة وبشعة، سحقت شعبنا طولا وعرضا.. مـأساةٌ بعمقٍ سحيق، وطولٍ وأبعادٍ تبدّت لنا كمحيط دون أطراف ولا خِلجان ولا منتهى..

لك أن تتخيَّلَ حجم الكارثة، وأنت ترى العملة تتدهور على نحو غير مسبوق، بل أن قدرتها الشرائية باتت تتلاشى على نحو فاجع ومخيف، دون اكتراث أو شعور بالمسؤولية من قبل سلطات الأمر الواقع الغارقة بالنهب واللصوصية والفساد المهول.

أكثر من مليون ونصف موظفٍ ومتقاعدٍ، ومستفيدٍ، قُطعت رواتبهم، وقُطعت معها أسبابٌ الرزق الشريف، وأطراف الحرب والصراع تتكايد مع بعضها لتتخلى عن المسؤولية حيال هذا العدد الذي يعيل قرابة عشرة مليون مواطن، باتوا مُفقرين ومعدمِين ومُعوزين..

تزداد البطالة كل يوم، وربما تتضاعف كل عام، وتُمارس أطراف الحرب سياسة إفقار متعمدة حيال هذا الشعب المنكوب بها، وتنتشر الأمراض والأوبئة، والمجاعة والتشرّد، والضياع، كما تفتِك الحربُ بهذا الشعب المنهك منذُ سنواتٍ طوال، وفي محيطنا عالمٌ متوحِّش لا يبالي بما وصلنا إليه من حال ومحال..

أكثرُ من مليونِ مواطنٍ يقتل بعضه بعضا في الخنادق والجبهات، بل وحماية حدود المعتدي.. سلطات مُغتصِبة وأرض تُغتصب.. قيمٌ إنسانية مُهدرة، وحقوق شعب تستباح.. نهبٌ وانهيار.. أمراءُ حرب وجهلة، وعملاءُ يتسلطون.. عدوانٌ كبير واحتلالُ غاشم، وهمجيٌ غيرُ مسبوق.. ما حدث كان أكبرُ من أن يُوصَف، ولم يكن يخطر على بالٍ وما كان بحسبان..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى