مذكرات

انقلاب ..!

برلماني يمني

أحمد سيف حاشد

مهمة لا بد من إنجازها على نحو لا يقبل الطعن فيها.. مهمة يجب أن تكون جديراً بها، وهي لا تحتمل التراخي والتأجيل.. عليك أن تكون في جهوزية من أمرك إن أردت الترشح بصفتك مرشح مستقل، وخوض غمار المنافسة الانتخابية البرلمانية.. يجب أن تتوخّى الحذر؛ فالشك هنا حارس أمين، و”سوء الظن من حسن الفطن”، لاسيما وأنت مزمع على خوض معركة من هذا القبيل، وبتلك الصفة، في ظروف ربما تجعلك الأسوأ حظاً، وفي واقع تنعدم فيه المساواة بتكافؤ الفرص.. عليك لتنجح أن تحتاط كثيراً.. عليك أن تضع في حسبانك واعتبارك أكثر الاحتمالات سوءاً لتضمن النجاح.

يشترط القانون أن يجمع المرشح المستقل ما لا يقل عن ثلاثمائة توقيع، تزكية من الناخبين في أغلب مراكز الدائرة التي ستخوض فيها معركتك الانتخابية.. رمتُ الحصول على أكثر من ضعف هذا الرقم، تحوطاً لأي احتمال أو حيلة، وتجنباً لأي فخ أو تشكيك أو تزوير أو تراجع أو نحو ذلك مما يمكن أن يُعد ويُطبخ، أو يفبرك ضدي، بقصد الإطاحة بي قبل الاقتراع، أو اختلاق ذريعة للحيلولة دون وصولي بالمنافسة إلى يوم الانتخابات، وربما الطعن في شرعيتي حتّى بعد اعلان فوزي.. فعندما لا تستحِ السلطة عليك أن تتوقع منها كل شيء.. هكذا كنتُ أفكر وأحتاط، أو هذا ما كنتُ أتوجسه في بلد عليك أن تتوقع فيها أسوأ الاحتمالات.

السياسة في بلادنا شاءوا لها أن تكون قذرة وموحلة، وطريقها مرصوف بالمكيدة والجريمة والفساد، وأخلاقها ليس غارقاً في الرداءة، بل هي بلا أخلاق ولا عفة ولا ذوق.. جل ساستنا ورجال أمنهم مخادعون وماكرون، لا تأمن لهم جانب، ولا تغمض نحوهم عين.. ليس لديهم في العفاف مبدأ أو في الطويّة ضمير.. يجب أن تلازمك اليقظة على الدوام.. احذر أن تغفل حتى للحظة، وضع في بالك أسوأ الاحتمالات حتّى لا تدركك مكيدة، ويلحق بك الندم بعد فوات الأوان.

***

وفي إطار مهمة جمع توقيعات التزكية، كلّفتُ أخي عبد الكريم، وأصدقائي محمد فريد سعيد، وردمان النماري، للذهاب إلى مراكز ومناطق “الأعبوس” لجمع ما استطاعوا من توقيعات التزكية.

كانت لدى أخي عبد الكريم سيارة شاص موديل 84 متواضعة ولا أقول منهكة حتّى لا أغيظ أخي الذي ربما يطالبني بتعويض مبالغ فيه، ويدّعي إنها جديدة من المصنع بقرطاسها، أو يطالبني بإيجارها، ولكن أقول إنها كانت في شدتي سنداً أنحني لها تقديراً، وبحذر أقول كان احتمال عطبها واعطالها وارداً في أي لحظة.. حالها لا يسر، ولكن كُلفة استئجار بديلاً عنها عبء مُكلف واضافي، ونحن لازلنا في أول الطريق، وما يزال مشوار الانتخابات طويل، والحاجة ماسة وملجة لمال كثير أغلب الظن لن ندركه.

شدّينا الحيل، وتمت المغامرة لإنجاز المهمّة، أو حتّى بعضها.. صالت السيارة وجالت هنا وهناك لجمع توقيعات التزكية، وفي حدود الساعة السابعة والنصف مساء ذلك اليوم، وبعد تجاوز جامع “قرية العقام” في منطقة “بني علي” أعبوس أستوقف محمد فريد السيارة، بغرض الاتصال، بعد أن صادف وجود تغطية لشبكة الاتصال في ذلك المكان.

وعند محاولة إعادة تشغيل السيارة، لم يقلب المحرك بسبب البطارية، وفي غياب المساعدة، اضطر محمد فريد، وردمان النماري الى دفع السيارة من الخلف، ولكن قواهما خارت قبل أن يقلب محرّكها.. ذهب محمد فريد وكان يتمتع بالجرأة والحنكة، لإحضار إمام الجامع، وشاب برفقته للمساعدة على دفع السيارة ليتمكنوا من إعادة تشغيل المحرك، فيما اضطر أخي السائق للنزول إلى جانب الباب لمساعدتهم والدفع معهم على أمل العودة الى كرسي السائق، حالما تبدأ عجلاتها بالدوران، وبالتالي يشتغل المُحرّك، ولم يلاحظ ان اتجاه العجلات الأمامية كانت متجهاً صوب المنحدر.

تفاجأ الجميع أن السيارة هرولت نحو المنحدر، وكان الوقت قد فات للحيلولة دون منعها من الهرولة لمحذور المنحدر.. هوت في حدود العشرين متراً لتستقر على مقدمتها في بقعة أرض ومؤخرتها إلى الأعلى، وكأنها تتوسل وتتضرع إلى السماء بالمقلوب، بعد أن صار رأسها وفاها غائراً في الطين.

أعتقد الجميع أن أخي السائق على الكرسي قابضاً على مقود السيارة أثناء السقوط، ولكنهم تفاجؤوا إنه بينهم؛ وبدهشة سألوه كيف صار بينهم!! فأجابهم أنه كان يدفع السيارة معهم، فأثار نوبة ضحك، فيما كان ردمان النماري وهو الحريص المؤتمن على الكشوفات يصرخ: “الكشوفات.. الكشوفات.. الكشوفات في السيارة” كان يقصد كشوفات توقيعات التزكية، وهي الحصاد الأول للجهد المبذول.. كانت السيارة في وضع مقلق ومهدداً بقلبة أخرى لأي محاولة تدخّل، فيما كان محمد فريد يصرخ في وجه “النماري” “نحن في ايش وانت في ايش؟!”

صار ما من حيلة ولا طريق لإخراج السيارة.. كانت المسافة التي هوت فيها السيارة غير قليلة، فضلاً أنها معرّضة للانزلاق والانقلاب مرة أخرى.

ذهب عبدالكريم ومحمد فريد نحو القرية القريبة بحثاً عن سيارة تقلهم إلى طور الباحة لإحضار “شيول”، وهناك وجدا صاحب سيارة اسمه عبدالسلام.. هنا بإمكانك أن تستحضر أو تتذكر مقولة شمس التبريزي قد “يأْتيك الحظُّ على هيئة شخص”. اخبرهم عبد السلام بصعوبة احضار “الشيول” من طور الباحة لوعورة الطريق، وتحرك بسيارته الى موقع الحادث، وكان متعاوناً جداً، ومعه حضر جمع من شباب القرية، وتوافد عدد لا باس به من الناس، وكبر الجمع، وكان ما حدث أشبه بالنكتة المدوية، وإن أخذت مشهد كرنفالي ساخر.

كان الناس يتساءلون:
اين كان السائق؟!!!
فيأتي الجواب: كان يدفع السيارة؛ فيغرقون بالاستغراب والضحك المقهقه، ويتساءل البعض: كيف تأمنون على أنفسكم مع هذا السائق؟!!
ويكون الجواب من قبل الجميع قهقهة طويلة.

كان الوفي ردمان النماري قد استغل غياب محمد فريد وعبد الكريم، ولا نعرف كيف استطاع اخراج كشوفات التزكية من داخل السيارة المهددة بالانقلاب مرة ثانية، ليتفاجأ الجميع إن الكشوفات بقدرة قادر قد صارت بحوزته.. إنه رجل لا يعرف اليأس، ولا يكف عن المحاولة مدفوعاً بإخلاص كبير،  وإصرار على أن “ينجح أو ينجح”.

ربطوا مؤخرة السيارة الى جذع احدى الأشجار، حتّى يتمكنوا من الحفر لإخراج مقدمة السيارة المغروز رأسها في الطين.. اضطروا إلى هدم احد الجدران، واستمر العمل إلى وقت متأخر من الليل، ثم المبيت ضيوفاً منكوبين لدى احد أهالي المنطقة.

تبادر السؤال إلى ذهني: هل ما حدث هو نذير شؤم؟! كان أبي إذا خرج ليلاً ودعس شوكة يعود على أعقابه، ويكف عن المضي إلى مراده.. ألا يمكن اعتبار ما حدث نذير شؤم يساوي ألف شوكة، غير أني استصرختُ داخلي صرخة ذلك الرجل القائل: “القلب الجريء يحطم الحظ السيء”.. ما حدث مشهد لن يسلمني لخرافة، وتوجساً مسنوداً بهشاشة.. ما بذلته من جهد بات إصراراً وعزيمة تملئني.. يستصرخني: “وامعتصماه”، لحظة ذكرتني لقصيدة أبو تمام في فتح عمورية وفيها:
“أينَ الرِوايَةُ بَل أَيـنَ النُجـومُ وَمـا صاغوهُ مِن زُخرُفٍ فيها وَمِن كَـذِبِ”
وكانت الخلاصة واليقين: لابد من فتح عموريتي، ولن أستسلم لخرافة.

***

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى