مذكرات

(3) في قلب موسكو .. أحمد سيف حاشد

مذكراتي .. بعض من تفاصيل حياتي

 (3)

في قلب موسكو

أحمد سيف حاشد

وسط الساحة الحمراء في قلب موسكو، تجد نفسك محاطا بعالم خرافي ساحر، يحكي العجب الذي فاق خيالك المتواضع رغم صدقيته.. خيالك الذي لم يكن بوسعه أن يتخيل المشهد الذي تقف عليه الآن بقدميك وتراه بأم عينيك، وأنت متردد في تصديقه، ومستغرق في الذهول، رغم أنه واقع وأكيد..

 

بديت أمام نفسي كمن فقد عقله تحت تأثير الصدمة، ولم يعد يفرّق بين واقع اللحظة التي يعيشها واللاوجود.. أسأل نفسي وأنا فاغر فاه، ومدهوشا مما أرى: هل يا ترى أنا موجود، أم غير موجود؟! هل هذا العالم الذي أمامي الآن، ويحيط بي من كل اتجاه، بالفعل واقع ملموس كما أراه ويتبدّى لي وللعيان الآن، أم هو محض وهم لا أساس له من الصحة، ولا وجود له؟!! إنه مشهد لم أكن أتخيله من قبل، ولازلت مترددا في التصديق..

 

إنه عالم آخر يختلف حد الصدمة عن ذلك العالم الذي جئت منه أو اعتدت عليه.. أن تتخيل نفسك فجأة تنتقل من قريتك النائية البعيدة، التي لازالت تطلب الغيث من صراف المطر، مقابل أن تدفع المال العزيز الذي تحصل عليه بالكد والكديد، وبين حضارة صارت تنزل المطر في الوقت والمكان الذي تريد.. إنها الصدمة الحضارية، والمفارقة الشاسعة بين قريتك الموجودة في أقاصي الأرض المنسية، وقلب موسكو عاصمة الإتحاد السوفيتي الدولة العظمى الثانية.. إنها مفارقة بحجم الدهشة كلها..

 

وأنا أجول في الساحة الحمراء مشدوها، أنقل نظري في زحمة ما يبهر ويسحر كنت أحدث نفسي : بوسعي أن أتخيل الإسراء والمعراج، أو بساط الريح، أو حكايات ألف ليلة وليلة، أو مردة الجن، وقد نقلوني من عالمي المعتاد والبسيط، إلى هذا العالم الباذخ بالسحر والجمال والعجب..

 

بإمكاني أن أتخيل أنني فركتُ الخاتم أو مصباح علاء الدين؛ واستدعيت ذلك المارد، الذي خرج عملاقا، وعلى عنقه القوي، وزنديه المفتولتين والمشدودتين بالقوة، تمائم وقلائد وأشياء أخرى.. بوسعي أن أتخيله أيضا أصلعا إلا من خصلة كثيفة من الشعر في قمة رأسه، مربوطة ومسدوله على ظهره العريض..

 

بوسعي أن أتخيل أيضا المارد قد فرد ذراعيه الواسعتين، وطأطئ رأسه، وهو يقول كعبد مطيع لي: “شبيك لبيك.. نحن بين يديك.. اطلب وأتمنى”.. فأتمنى أن يذهب بي إلى هذا العالم الخرافي الساحر الذي أقف عليه الآن بأقدامي، وأحملق فيه بعينين واسعتين.. هكذا صرت أتخيل ما حدث، وما صرت عليه الأن.. من فرط الصدمة الفارقة بدا لي الواقع خيال.. هكذا تنقلب الأشياء أحيانا عندما لا نصدقها، من فرط الدهشة والذهول..

 

هنا الضخامة والفخامة تجعلك تشعر وكأنك تعيش حياة أسطورية حافلة بالعجب.. كل شيء هنا يسحر عيونك، ويختطف منك ذاكرتك، ثم يعيدها إليك، وقد خزن فيها كل مشاهداتك وذهولك، وما رأيته مما لا تعرفه، ولا تنساه، ولن يغادره ذاكرتك حتى تُفنى أو تموت..

 

القبب الملونة، والهندسة المعمارية، والجداران العالية والمهابة، والأبراج بكل مسمياتها، والكنيسة ذات القبّة التساعية، والكرملين، وضريح لينين، وضريح الجندي المجهول، والشعلة التي لا تنطفي، والمتجر الرئيسي للمدينة، والأرض المرصوفة بالحجر الأسود العريق، والقلاع العتيدة، والقصور الملكية، ومتحف الدولة، وكل ما يقول: من هنا مر التاريخ.

 

الساحة الحمراء قلب العاصمة النابض والأكثر شهرة.. ملتقى ثقافات شعوب العالم.. كرنفالات واستعراضات وحب وأعراس وأجواء احتفالية خاصة.. وحجيج إلى ضريح لينين من كل بلدان وبقاع العالم..

 

هنا مقر الكرملين، والمقر الرسمي للحكومة السوفييتية.. هنا عاصمة دولة عظمى بيدها مصير العالم، وتتقاسم نفوذه مع عدد من الدول الكبرى، ولديها ما يفني العالم عشر مرات.. هنا يمكن أن تتفهم ما قاله الطالب السوداني المنتحر من الطابق العاشر في موسكو وما كتبه على قنينة “الفودكا” الشهيرة قبل انتحاره: “صافية كالدموع.. قوية كالسلطة السوفيتية” ولم ينتقص من قوة تلك السلطة وهيبتها، إلا السوق السوداء والاقتصاد الغير معافى، وهو ما كشفه لنا صرف الدولار.. حيث الدولار بسعر بنك الدولة 75 كبيك، فيما صرفنا الدولار في السوق السوداء، من خلال صديق، بثلاثة روبل إن لم تخنّي الذاكرة.. لقد أحسست يومها أن تلك السلطة ليست بتلك القوة، وأن اقتصادها يعاني الكثير، والصحة ليست على ما يرام.

***

 

أتينا إلي الساحة الحمراء ببزاتنا العسكرية الخضراء المراسيم، ونجوم مشرقة نحملها على أكتافنا، كانت لافتة للنظر.. كثير من نظرات المارين والواقفين في الساحة كانت تصوّب علينا.. اعتقدنا في أول الأمر أن زيّنا الفخيم هو السبب اللافت لتلك النظرات.. ظننا أن تميزه اللافت هو ما يشد النظرات ويلفت إليه الانتباه.. شاهدنا بعضهم ينظرون إلينا، ثم يتحدثون بشأننا ولا نعلم ماذا كانوا يقولون!! ولكن ابتسامتهم لبعض كان توحي أن هناك أمر فينا يثير الابتسامة، وربما ضحكاتهم في بعض الأحيان!! صارت الحيرة تلبسنا والاستغراب يستفز فضولنا..

 

أخذنا موقعنا في الطابور الطويل المؤدي إلى ضريح لينين.. عدد من الفتيات في الطابور على مقربة منّا يتهامسن وهن ينظرن إلينا، ثم يقهقهن، فيما كان يستغرقنا شعور الاستغراب..

 

– سألتنا أحديهن والابتسامة ترسمها الشفاه: من أي دولة أنتم؟!

فأجبناها: من اليمن..

– قالت أخرى: أنتم في مقتبل العمر، وتحملون رتبا كبيرة..

أستغربنا أكثر؛ ثم قلنا: هذه النجمة لدينا هي رتبة ملازم ثاني تمنح بعد التخرج من الكلية العسكرية..

وقبل أن يترجم لهن المترجم جوابنا الأخير، كان فضول الفتاة الثالثة يسأل:

– هل أنتم أبناء أمراء؟!

فتبدت حيرتنا أكثر واستعجبنا من السؤال! فيما جميعهن يضحكن، فتولى المترجم الايضاح.. وعرفنا السبب..

 

النجمة التي بحجم النجمة التي في رتبنا ونحملها على أكتافنا، هي لديهم وفي جيشهم رتبة رائد.. تلاشى ضحكهن، فيما انطلقت قهقهتنا بعد أن عرفنا السبب، وتبددت حيرتنا التي كادت تخنقنا..

 

أما اليوم وأنا أكتب هذا؛ فقد صار ضحكنا كالبكاء.. تندرنا بعد الوحدة من واقع ساد، حتى أسمينا اليمن “بلاد المليون عقيد” سخرنا وتهكمنا من كثرة منح الرتب كهدايا وهبات، وعطايا مناصرة ومولاة، وشراء للذمم، خارج القانون والنظام.. أما اليوم فصارت الرتب العسكرية توزع كالفاكهة..

 

كل سلطات الأمر الواقع في اليمن صارت تتنافس في منحها على أتباعها وأنصارها.. تستطيع أن تجد عدد غير قليل من لم يكملوا المرحلة الإعدادية أو الثانوية، قد صاروا يحملوا رتب عميد ولواء.. وتستطيع أيضا أن تجد عددا لا يقل عن هذا ممن لم يبلغوا سن البلوغ قد صار يحملوا رتبة مقدم وعقيد.. “يابلاشاه يا حراجاه” والأكثر سوءا أن تجد عند بعضهم بين الترقية والأخرى أيام أو أسابيع أو شهور..

 

من حق العالم اليوم في هذا العهد المملشن.. عهد الغلبة وأمراء الحرب وسلطات الأمر الواقع، وتحلل ما بقي لنا من دولة، أن يضحك علينا ألف سنة، وهو يرى الجهل في اليمن يحمل رتبا عسكرية كبيرة ومتوسطة، ويشاهد أطفالنا الغر، يُمنحون ويحملون الرتب العسكرية الكبيرة والثقيلة ويساقون كالقطعان إلى أتون ومحارق الحرب..

 

وقفنا على الشعلة، وضريح الجندي المجهول، ومشاهدتنا للحراسات وتغييرها الذي يجري على رأس كل ساعة.. خلصنا إلى أن كل شيء هنا يتم بدقة متناهية.. إنها الصورة الرمزية ذات الدلالة والتي تعكس صورة الدولة بمراسيمها المنضبطة والعالية الدقة.. ترى الجندي في وقفته وثباته، وكأنه مصنوعا من الشمع، لا يتحرك له رمشا ولا جفن خلال ساعة وقوفه.. تجد فضولك يتحفز إلى لمسه للتحقق عمّا إذا كان الذي أمامك جنديا حقيقيا أم مصنوعا من مادة أخرى، ولكن عقلك والمحيط يمنعك من أن تفعل هذا.

 

زرنا المتحف وشاهدنا تماثيل ومجسمات متنوعة، ومنها مجسم نصفي صغير للينين قالت زوجته “كربسكايا” إنه أكثر ضبطا ومطابقة للينين كما تراه وكأنه هو بالفعل.. إليانوف أيلتش لينين الذي كنت أحد معجبيه، ولكن بمأخذ، ولا أخلو من تحفظات.. ولا قداسة لأحد..

 

انتظرنا دورنا في طابور طويل حتى أطلينا على لينين المسجى في صندوق من زجاج وهو يرتدي ملابسه الأنيقة.. تمر وهو على بعد عدة أمتار منك، وأنت تحاول أن تدقق في تفاصيله، لا تجد ما يخرم شكله وهيئته قيد شعرة..

 

بعد يوم حافل بألف ليلة وليلة عدنا إلى الفندق..

 

***

يتبع ..

 

موقع يمنات الاخباري

موقع برلماني يمني

صفحة أحمد سيف حاشد على تويتر

صفحة أحمد سيف حاشد على تويتر 2

حساب أحمد سيف حاشد على الفيسبوك

صفحة أحمد سيف حاشد على الفيسبوك

قناة أحمد سيف حاشد على التليجرام

مجموعة أحمد سيف حاشد على التليجرام

أحمد سيف حاشد هاشم

 

“Yemenat” news site

MP Ahmed Seif Hashed’s websit

Ahmed Seif Hashed “Twitter”

Ahmed Seif Hashed “Twitter”

Ahmed Seif Hashed “Facebook”

Ahmed Seif Hashed’s Facebook page

Ahmed Seif Hashed

Ahmed Seif Hashed channel on telegram

Ahmed Seif Hashed group on telegram

 

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى