(6)
الشبح الأبيض
أحمد سيف حاشد
كانت النقاط الأمنية التي تم نشرها على الأرجح في مستهل الثمانينات من القرن المنصرم في مناطقنا النائية، ترغمنا على تجاوزها من خلال الالتفاف عليها، وسلك طرق غير سالكة، وعبور أكثر من منحدر، وتسلق الوعر منها؛ لتجنب الاحتكاك بتلك النقاط أو الاصطدام بها..
في إحدى المرات سلكت طريق التفافي في جبل محاذي لـ “سوق الخميس” وكانت الساعة بحدود الواحدة بعد منتصف الليل.. القمر يتوارى خلف الجبال العالية، وضوؤه الشاحب يتلاشى نحو الزوال، والظلمة تقتفي أثره وتزحف باتساع.. شاهدت كتلة بيضاء تتحرك.. انزويت في مكان لأرقب الأمر بحذر..
أقترب الشبح الأبيض منّي أكثر دون أن يشعر بوجودي.. كان يلبس قميصا أبيضا، ومعمّما، وحازما عمامته وصدغيه بقطعة قماش أبيض.. ربما بدا لي في هيئة أشبه بولي من أولياء الله، أو رجل من عباده الصالحين المصطفين الذين يظهرون نادرا على بعض أبناء البشر، ويجلبون لهم الحظ والسعادة، أو يبعثون في نفوسهم من الفأل والأمل احسنه..
داهمتني الأسئلة والاحتمالات: ربما يكون الخضر!! ولكن لماذا الخضر عليه السلام يترك الطريق السالكة، ويجلب لنفسه العناء والمشقّة، ويتسلق الوعورة والجدران؟!! أنا أفعل ما أفعله، وأعبر طريق غير سالكة، لأنني أتحاشى الاصطدام بنقطة الحراسة، ولكن لماذا هو يفعل هذا طالما أنه ولي الله أو نبيه؟!!
نسمة عطر فواحة تسللت نحوي وهي تسبق صاحبها الذي بدى ملهوفا.. أحسست بانتعاش روحي التي أنهكها السفر والاحتيال على نقاط الحراسة والتفتيش.. صار الشبح الأبيض يقترب منّي أكثر وهو يتسلق الجدار الذي يؤدي إلى حيز المكان الذي أنا كامنا فيه.. لم يعد هناك متسعا لأتجنب الاصطدام به، فيما هو لا يشعر بوجودي.. أسأل نفسي بسرّي وأتعجب: ما أسمعه هو أن الخضر يتجلى بهيئة رجل رضي أو شيخ بثياب بيضاء أو خضراء، ولكني لم اسمع أنه يتعطر بعد منتصف الليل؟!!
هل هو “جني”؟! الجن ربما يتسلقون الجدران، ولكن لا أظنهم يلبسون ملابس التقى والورع، ولا أظنهم يتعطرون إلا إذا كانت “جنية” تريد إغواء الرجال، أما هذا الشبح الأبيض فهو بخلاف ما هو مسموع ومروي عن الجن!
وأما لو كان الخضر أو أحد من أولياء الله الصالحين لكان حري به أن يدرك أن في طريقه فتى يده على المقبض وسبابته على الزناد، من المحتمل أن يطلق الرصاص عليه في أي لحظة! لم أسمع يوما أن رجال التقى والورع يتسلقون الجدران في هزيع الليل، وينثرون عطرا يهبل النساء في لجته!! أشتد عجبي وارتيابي وشكوكي في الأمر من أوله إلى آخره..
بعد لحظات وجدت نفسي بمواجهته تماما، لا تفصل بيننا إلا مسافة في حدود المترين.. لا محالة سيصطدم بي قبل أن يبدأ بتسلق الجدار المسنود ظهري إليه..
الاصطدام وشيك.. انتفضت من مكمني مباغته، وهجمت عليه واضعا فوهة بندقيتي الآلية بين جنبيه، وأنا أباشره بالسؤال: من؟! من معي؟! كانت المفاجئة له صادمة وصاعقة.. تكاد أصبعي تضغط على الزناد واطلاق النار وشيك في حال أبدى أي حركة مريبة أو مقاومة منه، وحتما سينتهي الأمر هنا بقتيل مجهول قاتله.. غير أن ردة فعله كانت مملؤة بالجزع والارتباك، وأجابني بصوته الهلوع: عمّك “فلان..” عمّك “فلان..” عمّك “فلان..”.. أحسست أن قلبه يكاد يقفز من بين ضلعيه.. كدت أسمع خفقات قلبه.. الخوف يجتاح جسده، والهلع ينتشر في أوصاله كطوفان..
أنزحت عنه وتركته يمضي، وتمنيت أن يكون هذا العاشق ـ أغلب الظن ـ قد أحتال عليّ وقال لي “أنا وليكم الخضر” لو فعلها وأحتال وبرر لاختلفت الحكاية هنا، ولا أدري ما كنت سأنتهي إليه.. لو قالها وأستطاع تبديد شكوكي والإجابة على أسئلتي لربما كانت القصة أكثر تشويقا مما هي عليه الآن.. لو تطفّلت عليه، وكشف لي عن سره، وباح لي عن تفاصيل عشقه وحبيبته، لكانت قصته اليوم مع قصتي أشوق وأمتع مما هي عليه الآن..
***
لقد نجح كثير من القتلة والمحتالين والانتهازين واللصوص والفاسدين على التغرير بنا وخِداعنا، بل وخداع شعوبهم معنا بمكر وخبث وتقية، حالما زعموا أنهم في مقام الخظر والأولياء الصالحين، بل والملائكة، فوثقنا بهم، وأعتقد الكثيرون إن فيهم خلاصنا من ظلم أناخ أحماله الثقال على كواهلنا المتعبة، وإذ بنا نكتشف بعد حين بكلفة باهضه إنهم مسكونين بخبث ومكر عميق، وشر كبير يهد حيل الجبال إن تمكّن أو أستتب له أمر وسلطان..
تجربة أمر من المُر، وأشد علينا من النار الحامية، عشناها ولازلنا نعيشها نحن وشعبنا إلى اليوم.. والأكثر حزنا ومأساة أن لازال بعضنا منجرا بكل قواه إلى مزيد من السقوط في الهاوية، منفذا أجندات الحرب بحماس أشد من الحرب نفسها وبالحماقة كلّها، ومهرولا بسرعة العاصفة إلى ما هو أقبح وأبشع.. وبعضنا ملكي أكثر من الملك بدافع من سلطة أو مال أو مجد زائف..
المؤامرة باتت أكبر منّا ومن الوطن، وصيتنا للأجيال القادمة أن لا تقع بما وقعنا فيه إن بقي للوطن وجود أو بقايا.. يجب أن تتعلم الأجيال والشعوب مما مما حدث، حتى لا تعود، ولا يتكرر المشهد، ولا يتكرر التاريخ بصورة المهزلة الأكثر كُلفة ومأساة.. وحتى لا تدفع الثمن الكبير مضاعف..
احذروا ألف مرة ممن يتقمص التقوى، ويتعمم الفضيلة والصلاح، وفي داخلة تمنت الشرور كلها أن تسكنه وتستوطنه لتطيح بالحياة كلّها..
***
يتبع..
صفحة أحمد سيف حاشد على تويتر 2
حساب أحمد سيف حاشد على الفيسبوك
صفحة أحمد سيف حاشد على الفيسبوك
قناة أحمد سيف حاشد على التليجرام
مجموعة أحمد سيف حاشد على التليجرام
Ahmed Seif Hashed’s Facebook page