مذكرات

السلسلة الثامنة.. الحلقات 1 – 8 الثانوية في مدرسة “البروليتاريا”.. أحمد سيف حاشد

مذكراتي.. من تفاصيل حياتي

السلسلة الثامنة – الحلقات 1 – 8

الثانوية في مدرسة البروليتاريا

أحمد سيف حاشد

(1)

فكرة عامة ولفتة مقارنة

مدرسة “البروليتاريا” كانت مدرسة لأبناء البدو الرحل، تأسست في عهد الرئيس سالمين، والذي كان يهتم بتعليم أبناء البدو الرحل، ويتم جمع أشتاتهم من الصحاري والأقاصِ البعيدة؛ لكفالتهم، ونظمهم في سلك التعليم العام، ورعايتهم خلال دراستهم في مراحلها المختلفة..

تقع مدرسة “البروليتاريا” في منطقة تتوسط الطريق الرابط بين محافظتي لحج وعدن، وتتبع إداريا وتعليميا محافظة لحج، وكان يوجد قسم داخلي ملحقا بها توفر فيه الدولة لجميع الطلاب السكن والغذاء مجاناً.

درستُ الثانوية في مدرسة “البروليتاريا”.. وكان مصطلح “البروليتاريا” يُستصعب على اللسان التي لم تألفه أو تعتاد عليه، وقد صرنا نحن فيما بعد نحفظ هذا المصطلح كما نحفظ أسماءنا، وأكثر منه صار محل اعتزاز وانتماء ومفاخرة لاسيما في المعنى الذي يحمله، والمنصبُ تحديدا في الطبقة العاملة التي كان ينظر إليها الوعي السياسي الاشتراكي والثقافة الماركسية، بأنها الطبقة الأولى المعنية بالتغيير في المجتمعات الرأسمالية، وانتقالها إلى الاشتراكية والشيوعية، واعتبار الطبقة العاملة أكثر طبقات المجتمع ثورية، والمناط بها قبل غيرها مهمة إسقاط النظام الرأسمالي في العالم..

***

عندما التحقت بهذه المدرسة في العام 1979 ربما شعرت ببعض من غربة، أو ربما حال يختلف عما أعتدت عليه، وتدريجيا تلاشى هذا الشعور.. كان أكثر طلاب هذه المدرسة أو يكاد يكون جميعهم من ريف محافظة لحج، ردفان والضالع وطور الباحة ويافع، ولا أذكر أحد من الشمال فيها غيرى عدا محمد عبد الملك من “مرابحة القبيطة”، وعلي بادي من “آنس ذمار”، فيما مدرسة النجمة الحمراء التي كانت تبعد عن مدرستنا كيلو مترات قليلة، تحتضن أعداد كبيرة من طلاب أبناء المناطق الوسطى، والمناطق الشمالية عموما..

وبعد عهد غير طويل تم تحويل مدرسة “البروليتاريا” إلى معسكر اسمه اللواء الخامس، وبعد أربعين عام من تلك الأيام، وخلال هذه الحرب التي نعيشها اليوم، تم تدمير كثير من المدارس الحكومية، وتحويل عدد غير قليل منها إلى ثكنات عسكرية وسجون ومعتقلات، وبعضها يجري الهدم والتوسيع فيها لصالح مشاريع تجارية..

أما من حيث النوعية والجودة، فقد بات التعليم ضعيفا وهشا ومتخلفا ومشوها، وفوق ذلك يدفع أهالي الطلاب المال برسوم فاقت قدرات كثير من ولاة أمورهم، ويتسرب كثير من الطلاب من مدارسهم، ويجري تحشيد بعضهم من المدارس، وهم دون سن الرشد، كمحاطب حرب، وتتخلى سلطات الأمر الواقع على اختلاف مسمياتها عن وظيفة خدمة التعليم المجانية، لصالح التعليم الخاص الذي لا يخلوا هو الأخر من بؤس وهشاشة..

وأكثر من هذا وذاك بات المعلّم في هذه الحرب اللعينة وللسنة السابعة في كثير من المدارس يعمل دون أجر، وفي بعضها بُخس أجره حتى كاد يكون بدون أجر، وبعضها بحافز لا يكفي وجبة غذاء واحدة لمعلم بمفرده دون أسرته، ومع ذلك بُخل عليه حتّى أن يُعطى هذا الحافز الحقير حقارة هذه السلطات المريعة التي تحكمه..

سلطات هذه الأيام تريد معلم ليس لديه أسرة أو عائلة أو معده.. معلم لا يأكل ولا يشرب ولا يحتاج.. تريد معلم بائس وذليل وخاضع ويعمل دون مقابل.. سلطات تريد معلمين يأكلون ويشربون الهواء، وحتى الهواء بودهم أن يقطعونه عليهم لو كان يُشترى. وإن أحتج هذا المعلم الجائع والمسحوق على هكذا وضع استولوا على خدمته لمجرد أنه طالب بحق من حقوقه..

إننا نُساق قهرا وعنوة إلى وضع أكثر سوءا وإذلالا للإنسان من العهد العبودي الأول.. عهد أكبر كارثية مما مر ومما حل.. إننا نعيش وضع أشبه بعهد يشهد ردة حضارية مروعة وعارمة..

***

(2)

جوع

رغم وجود قسم داخلي في مدرسة “البروليتاريا”، وعنابر سكن لجميع طلابها إلا إن الغذاء كان رديئا، ويفتقد للتحسين، بالإضافة إلى أنه كان قليلا، ولا يشبع بطوننا، وأعداد الطلاب بالمئات، وبعضهم لا يلحق وجبته المقررة، بسبب نفاذ كمية الغذاء المطبوخة قبل الانتهاء من توزيع الوجبة لآخر طالب فيهم..

كان طابور الحصول على الوجبة طويلا، ويشهد أحيانا عراكا بين بعض الطلبة بسبب الزحام أو محاولة بعضهم التقدم بتجاوز مواقعهم في طوابير الغذاء.. كنت في بعض الأحيان عندما لا ألحق وجبة العشاء أضطر للذهاب لأشجار (الديمن) المحيطة بالمدرسة لأسُّد بها رمقي من الجوع، وأحيانا كان معي صديقي الخلوق والمتصالح مع نفسه محمد عبد الملك حسين، الذي لي معه ذكريات لا تُنسى، سأتطرق لبعضها لاحقا..

كنت أحيانا أذهب إلى مزرعة مجاورة تابعة للدولة، للمذاكرة تحت ظلال أشجارها الوارفة، وننتزع خلسة بعض حبات الليم لنستخدمها على الفاصوليا، وتعطينا شهية مضاعفة، فيما كان الأكل قليل، وكان القليل يصير بالليم لذيذ، نكمل الوجبة المقررة، ونجدها لا تسد نصف ما تحتاجه بطوننا..

في السنة الأولى جئنا في موسم زراعة أشجار الجلجل، وكنّا نجوع في الليل عندما تتطاول ساعاته الثقيلة علينا، وعلى بطوننا الخاوية التي يأكلها نهم الجوع المفترس.. كان ينفذ صبرنا ونحن لا نملك ما نخادع به بطوننا التي كانت تعرفنا جيداً، وتحتج علينا، وتصرخ في وجوهنا بصرخات ولسعات الجوع، فيما التصحّر كان يحيط بنا، إلا من مزرعة تقع على مدى عشرين دقيقة نقطعها سيرا على الأقدام..

كانت خيمات السمسم المجفف تمتد لمساحات لم نعتاد رؤية مثلها، وكنا أشبه بالعصافير التي تشبع حواصلها الصغيرة من جنيها الكثير، أو نقلل من فاقة تشتد علينا، وتسرق نومنا في الليل، وترهقنا طول النهار..

لم تكن المزرعة مسيجة أو مشبكة، وحرزها مفتوح، وكان الأمان أمان، وما نجنيه نحن لا يستحق الذكر، بل لا يزيد عما يرمق جوعنا، ويخفف من رعشة اليدين، وتمنح أرجلنا المخذولة بالجوع بعض الصمود والمقاومة؛ فهل كنّا يومها لصوص؟! أم كان بعض من تمرد مشروع ؟! أم هي ضرورة الجوع الملجئة؟!

بين السوية والإجرام شعرة أحيانا تتماهى مع ما حولها، حتى نكاد لا نراها أو لا نميزها مع من حولها، وتلتبس علينا أحيانا كما التبست الجريمة مع غيرها لدى “راسكولينكوف” بطل رواية الجريمة والعقاب، للروائي الروسي ديستويفسكي، مع فارق أن دافعنا كان أشد، وجريمتنا أقل إن اعتبرناها جريمة.. ومع ذلك أسأل نفسي بعد عقود خلت: هل كنّا أسويا أم مجرمين؟!

ما كنّا نفعله يشبه في الطريقة ما يفعله اللصوص، ولكن ما كنّا لنفعل إلا بدافع نراه بحجم الضرورة.. ثم ألم يقولوا إن “الجوع كافر”.. ألم يقل بعضهم “لو كان الفقر رجلا لقتلته”، فماذا وقد اجتمعا علينا الاثنان..!!

الجوع أشد وطأة من الكفر.. وربما الكفر في الواقع غير ما يراه الكثيرون!! فقد أسمى بعضهم بعضه بـ”الكفر الحلو” وآخرين قالوا عن بعضه “كفر نعمة” و”النعمة” هنا لازال فيها نظر.. هناك تعدد في الكفر دون الكفر البواح، والكفر البواح له رب يعاقب صاحبه..

لماذا قضايا الجوع والفقر رغم طغيانها واتساعها المستمر لا تحتل في وعي الذين يصنعونها نفس القدر والمستوى والاتساع من الأهمية كما هي في الواقع فعلا؟! لماذا هذا الاختلال الذي يصيب الوعي، فيتم التصدّي لهذا الطغيان الجائح للجوع بمعونات قليلة ومهينة، يسترجع أصحابها ثمنها بأضعافها بألف وسيلة وطريق؟!

لماذا نُخب الدين والجماعات تزيّف الوعي والمفاهيم، وتحرف القضايا، وتنحرف هي عن مسارات العدالة، رغم أنها ترى بأم عينيها الفقر والجوع ومجاعات العالم، ومعه كل هذا الطغيان. والأكثر سوءا تريد أن تناهض وتكافح كل ذلك بما تسميه زكاة أو “صدقة”..!!

لماذا الجماعات الدينية والسياسية في اليمن تتخلى عن شعبها المنكوب بها وبالحرب؟! لماذا تتخلى عن مسؤولياتها الاخلاقية، والتزاماتها القانونية باعتبارها سلطات أمر واقع، والتي تملي عليها واجب المسؤولية كل بحسب ما تحت سلطتها من سكان ومجتمع؟!

من أوجب الواجب دفع رواتب العاملين والموظفين في الجهاز الإداري للدولة، والمتقاعدين أيضا، والمستفيدين من الضمان الاجتماعي، وكل من يطولهم الجوع وتفتك فيهم المجاعة في حرب أوغلت بشاعتها، ولا يريدون لها وضع أوزارها، بل يريدونها أن تستمر وتستديم..

الأكثر وقاحة أن تلك الجماعات كانت دينية أو سياسية أو كلاهما معا، باتت تتخلى عن كل وظائف الدولة تقريبا، وتتجه بعزم وإصرار إلى الإيغال المريع في سياسة النهب والفساد وصب جل الاهتمام نحو الجبايات والإتاوات ومضاعفة الضرائب وممارسة إذلال شعبها وهدر كل ما هو من صميم حقوقه وكرامته..

يتاجرون بالوطن والدم، ويوغلون في النهب والفساد ويتسولون الغذاء من دول العالم، ثم يحاولون التكسّب والتربُّح من هذا التسول دون خجل، وأكثر منه يتحدثون بعجرفة ووقاحة عن العزّة والكرامة والقيم والشّيم والأخلاق الحميدة..

***

(3)

احتجاج على الجوع

كثير ما يستفزني الفقر والجوع والظلم والفساد.. يستفزني الاستبداد بكل صنوفه حتى وإن لبس ثوب الأب أو المعلم أو القائد أو القديس أو الكاهن.. يستفزني أكثر غرور السلطة وعنادها وخواء التعالي والاستكبار في وجه الحق والعدالة التي أحلم بها وأهتم بأمرها.. لم اعتد الظلم لأهوّن منه أو أتصالح معه مهما طالت سنينه.. لا أتسامح مع الظلم وأنا المجبول على النسيان، حتى يتم كسره أو اسقاطه أو التحرر من ربقته..

روحي لا تهدأ ولا تستكين، وتظل دوما متحفزة للتململ والتمرد والثورة.. مسكونا على الدوام بالقلق وعدم الرضى، حتى وإن لذتُ بالصمتِ قليلا، أو شعرت بخذلان مُحبط إلى حين، أو تعاميتُ مرغما عن الحق لبعض الوقت، أو حتى تواطأت لأسباب تخصني، فإنني أعيش صراعاً داخلياً أقوى وأكثر احتداما مع ضميري، وتأنيب ضميري يظل يرفسني من الداخل كحمار وحشي، حتى أعود إلى الصواب أو الصحيح ما أمكن..

ربما هذه الروح الغير قطيعيه هي من كانت السبب في استبعادي من فرص متاحة أغتنمها غيري، وأهدرتها أنا بوعي وقناعة وزُهد، لأنني اعتبرتها في حقيقتها بل ولازلت، مجرد مصائدا ومكائدا ومعتقلا للاستعباد لا فكاك منه ولا مفر..

أشعر أحيانا بالتعب والضنك، ولكن ما أن أستريح قليلا أو استرجع الأنفاس حتى أعاود الكرّة مرتين وثلاث.. أعود إلى إعلان الرفض، وفعل التمرد، والمقاومة حتى تستقيم الأمور، أو تنتهي إلى زوال..

أخوض مع الواقع صراعا صبوراً كـ “سيزيف” رمز العذاب الأبدي مع الصخرة، أو كأبليس الذي شق عصا الجماعة، وعصي ربه منفردا وشاذا؛ لإنفاذ مشيئة الرب، مقدما إياها على أنانيته.. أحاول أن أوصل صوتي المضطهد إلى أقصى مدى ممكن، حتى وإن أكلت بعضه الدود، فأنني على الدوام أحاول أن أجد نفسي مصطفا مع المضطهدين في قضاياهم العادلة، وفي مقاومة من يصنع ذلك الظلم والاضطهاد، بل والاستعباد أي كان صاحبه..

ربما أبدو قلقا على الدوام، وغير راضي على سير الأمور والأحوال، بل وربما ساخطا على هذا العالم الدامي، ونظامه المرتكز على الظلم والاستغلال، وثائرا في وجه الأقدار التي أشعر إنها غير عادلة.. كل ذلك أدركته اليوم مليا، وما كنت أدركه فيما خلا، وكانت البداية في أول احتجاج أشارك فيه حالما كنت مراهقا، أو في مطلع الشباب الباكر..

***

في مدرسة “البروليتاريا” وبسبب الجوع، واحتجاجا على غياب التحسين في وجبات الغذاء، وانقطاع الكهرباء، أضرب عدد كبير من الطلاب عن الدراسة، وكنت واحدا منهم..

امتنعنا عن الدراسة، وخرجنا للرصيف نحتج على رداءة الغذاء والمطالبة بتحسينه.. قطعنا الطريق بين لحج وعدن بالحجارة ومنعنا عبور السيارات، وهو عمل جريء في ذلك العهد، بل وشديد الحساسية؛ لأن أي عمل أو احتجاج من هذا القبيل، كان يصنّف باعتباره ثورة مضادة، ويذهب بعض السياسيين إلى تفسيره بأكثر الاحتمالات سوءا وقبحا، وبأسباب يفترضوها فوق ما نطيق ونحتمل، غير أن وجود طلاب محتجين من الضالع وردفان والصبيحة درأ عنّا كثير من تلك الاحتمالات والافتراضات ومنعت عنّا عواقبه.

كثيرون هم الطلاب الذين التزموا الاحتجاج وامتنعوا عن الذهاب إلى الصفوف الدراسية، وبعضهم وهن بعد يوم أو بضع يوم، وبعضهم آثروا السلامة، وتحاشوا المشاركة في هذا العمل الاحتجاجي شديد الندرة والوقوع، إن لم يكن الغير مسبوق..

زميلي أحمد مسعد الشعيبي يصف ما حدث بأول انتفاضه طلابية عفوية ضد الحرمان من الحقوق الطبيعية المتمثلة بالمأكل والمسكن… وقد اطلق شررها انقطاع التيار الكهربائي بسبب عدم سداد إدارة التربية فاتورة استهلاك الكهرباء، وقد انطلق الطلاب إلى الخط العام قاطعين للطريق العام التي تربط محافظة لحج بمحافظة عدن..

كان الطلاب من أبناء الضالع في المدرسة هم طليعة المحتجين.. كنت معجباً بأولئك “المجانين” الذين رفضوا الظلام، ونازلوا الجوع، وتحدوا عواقبه..

كنت أنظر لغير المحتجين نظرة سخط وازدراء، وأسأل نفسي: لماذا هؤلاء يتلبسهم الخوف ويركبهم الخذلان، ولا يسخطون على الجوع والقائمين عليه؟!!

أعجبتُ بالطلاب الذين يجرؤون على الاحتجاج، ويحاولون أن يصلوا بصوت الجوع إلى أكبر مسؤول في البلاد..

كان المسؤولون في المحافظة ولاسيما في التربية والتعليم الذين تتبع المدرسة مسؤوليتهم هلعين من انعكاسات وتأثير تلك الاحتجاجات عليهم، وعلى مناصبهم ووظائفهم..

نزل المسؤولون عن التربية والتعليم في المحافظة ليجتمعوا بالطلاب ويسمعوا مطالب المحتجين ومناقشتهم فيها بعد فشلهم في إرعابهم وثنيهم عن مواصلة الاحتجاج، وإرجاعهم إلى فصولهم الدراسية.

لم نهدأ ولم نكف عن الاحتجاج الا بعد حضور علي عنتر والذي نجح في تهديتنا عندما قال: “تروحوا أسبوع وترجعوا على اكل حسين ونظيف” وأمر بتحضير ناقلات “بوابير” لنقل الراغبين من المحتجين والمتذمرين كلاً الى مديريته والعودة إلى أسرهم في إجازة قصيرة، ريثما يتم تدبّر الأمور، وتحقيق مطالب المحتجين..

العمل الاحتجاجي من هذا النوع وضد السلطة الثورية أو هكذا يفهم مثل هذا النوع من الاحتجاج وفي تلك الفترة شديدة الحساسية كان عمل جريء ومقدام بكل المقاييس..

أن يندلع عمل احتجاجي في مدرسة تحمل اسم عظيم في دولة تدّعي أنها تتبني نظرية الاشتراكية العلمية وتعمل من أجل إقامة دولة “البروليتاريا” عمل ربما يكشف هشاشة بعض من ذلك الادعاء.

أسفر هذا الاحتجاج عن نتائج تحسين ملحوظة في التغذية والنظافة والتنظيم واستعادة الكهرباء المقطوعة.. وكان هذا العمل هو أول احتجاجي أشارك فيه.

***

 

(4)

خارج المقرر المدرسي

في الصف الثاني ثانوي تم تخصيص عشرة دينار شهريا مساعدة لأبناء الشمال (الجبهة الوطنية).. كنت انتظرها بفارغ الصبر نهاية كل شهر، وأشتري بعض الكتيبات، وكان الكتاب يومها مدعوما من الدولة، نشتريه بأسعار زهيدة ورخيصة.. كما كنتُ أصرف بعض منها عندما أجوع كل  ليلة بشراء البسكويت والشاي من محمد حيدرة الذي كان لديه حانوت صغير في بوابة المدرسة من الداخل..

 كانت وجبة الشاي والبسكويت وجبة لذيذة وشهية تخفف من وطأة الجوع، حتى صرنا رفقة في غلس الليل نواجه فيه الجوع.. لازلتُ إلى اليوم أشتهيها في بعض الأحيان، وأتذكر من خلالها أيام خلت وانقضت، ويفعلها اليوم رفيقي نبيل الحسام حين يجوع أو يدعم معدته على الصمود في وجه الجوع أو يخفف من وطأته عليه، ويعزمني على بعض منها وأنا أكابر، وحنيني إليها متوثب وجارف..

حبة السمسم باتت تحن علينا من جوع يحمل أصحابها أنفس هنيئة مهما كان العبء كبيرا والأحمال ثقال.. ما أجمل الفقراء الذين عرفتهم، وما أغناهم وأنبلهم وأهناهم على بعضهم.. ما أجمل صحبتهم ورفقتهم وهم يشمخون برؤوسهم في العنان رافضين الاستكانة والخضوع.. ينازلون الجوع بالكبرياء المعهودة، وبعزة نفس تبلغ السماء طولا.. يقاومون الإذلال والتفاهة والانحطاط، بتفان فذ، واستبسال المنتحر..

***

في مدرسة “البروليتاريا” كانت لدي إذاعة صغيرة أتابع من خلالها الأخبار ليلا وفيه السماع أقل وشيشا.. كنت حريصا على سماع نشرة وتقارير إذاعة “مونتي كارلو” الساعة الثامنة مساء، والتي تستمر نصف ساعة، ثم اتابع ما يليها حتى إذا جاءت الساعة التاسعة، انتقل إلى متابعة نشرة إذاعة bbc من لندن، ثم برنامج مقتطفات من أقوال الصحف، ولا أنتهي حتى أسمع برنامج “السياسية بين السائل والمجيب” الذي ينتهي في تمام الساعة العاشرة ليلا..

ساعتان يوميا دون انقطاع كنت أقضيها في ردهات الأخبار والتقارير وأقوال الصحف، والسياسية عموما، فإن حدث مستجد مهم قضيت وقت أطول في المتابعة، وسماع محطات أخرى متنوعة مهتمة بذلك الشأن أو الحدث.. لا أذكر إن ليلة فاتتني دون أن أقضي أقل من ساعتين في سماع الإذاعة باشتياق وشغف سياسي ومعرفي..

لقد كان هذا جزء من برنامجي اليومي المعتاد، والحريص عليه أثناء دراستي الثانوية، في مدرسة “البروليتاريا”.. كانت تلك المتابعة تشعرني بزخم الحياة، وتطورات الأحداث، وما للشأن العام من أهمية في حياتنا وتوجهات دول العالم دون أن أغفل محذور ما هو كاذب ومظلل، وكان تنوع المصادر والمقارنات فيما بينها يساعدنا إلى حد ما في معرفة الحق من الباطل والمُظلل..

***

كنت أتطلّع للمعرفة وأشغف بها، وأقرأ الصحف عندما أجدها، وكذا بعض الكُتب، حتى ما كان منها عصيا على الفهم بالنسبة لمستواي المعرفي المتواضع، ولكنني كنت أحاول فهمها، وكأنها جزء من المقرر الدراسي.

اذكر أنني في صف الثاني ثانوي فاجئني وثار في وجهي أحد اساتذة دار المعلمين لمجرد أنه شاهدني قرب بوابة المدرسة وأنا أقرأ كتاب لإنجلس (أصل العائلة)، وعنَّفني كون هذا يصعب فهمه حتى على خريجي الجامعة، وأن مطالعتي لهذا يأتي على حساب مذاكرة دروسي..

كان واضحا أن هذا الاستاذ متخفف إلى حد بعيد من الايديولوجيا ومحدداتها الصارمة، وأظن ان اصوله كانت هندية أو باكستانية، وهو ما قدّرته من خلال سحنته وملامحه.. أما أنا فكنت أحترم المعرفة من أي باب أو مصدر تأتي.

هذا الزجر لم يمنعنِ من القراءة خارج المقرر الدراسي، بل جعلني اقرأ أكثر خارج المناهج والمساقات الدراسية، دون أن يؤثر ذلك سلبيا على الاهتمام بدروسي التي كنتُ اعطيها القدر الأوفر من الوقت والاهتمام، ولكن أحيانا كانت معاناتي وشغف المعرفة يحملاني على القراءة خارج المقرر الدراسي، كما كان لأستاذنا السوري الجليل والضليع في الأدب واللغة العربية حسن بشماف الذي يتحدث العربية الفصحى في الدرس وخارجه وتمكنه من اساليب التدريس في مادته جعل الأدب العربي في عيوننا جميلا ويستحق مزيدا من الإيغال في القراءة والمعرفة خارج المقرر المدرسي، ولا أنسى بعض تمرد وتجاوز على ما هو مقرر ومعتاد ..

أذكر أنني كنت أقرأ وأطالع في الشعر القديم من ديوان عنتره، وكذا شعر المعلقات، والشعراء الصعاليك، وكتب الأدب في العصر الوسيطـ وفيها بعض القصائد والشروحات الممتعة، وكنت أمعن في قراءة الكلمة ومعناها في الحاشية أسفل الصفحة لأتمكن من فهم القصيدة أو أبيات الشعر المستعصي عليّ فهمها..

إجمالا كانت القراءة خارج المناهج الدراسية الأساس لتوسيع مداركي المعرفية، بل والتفوق لاحقا في الدراسة، ومغادرة دائرة ومواطن بعض الضعف المدرسي الذي ربما أحسستُ أو عشت بعض منه..

***

وفي الفن الغنائي كان يعجبني الاستماع إلى بعض أغاني طه فارع وحسن عطا وكان هذا الأخير يعمل عميدا لدار المعلمين في نفس المدرسة التي أدرس فيها، كما كانت تعجبني بعض أغاني الفنانين عبدالباسط وأيوب طارش عبسي.. غير أن زميلي عبدالحكيم من منطقة “معبق” على الأرجح كان يعجبه عبدالحليم حافظ وأم كلثوم حد الإدمان والذوبان..

كنت أستغرب لذوقه لأنني لا أفهم كلمات الأغاني ولا استسيغ لحنها، ولا يطربني إيقاعها، بل كنت أشعر بالإنزعاج والضيق منها.. ولطالما أستغربتُ من أذواق بعض الناس الذي يعجبهم ذلك الفن الذي أستصعب سماعه، ومنهم عمي فريد الذي كانت تعجبه أغاني أم كلثوم..

ولكن بعد فترة وجدتُ نفسي أميل إلى بعض أغاني عبدالحليم وأم كلثوم، وقد أعجبتني أغنية “لا تكذبي” التي غناها الفنان عبد الحليم حافظ ورددتها كثيرا مع صوته بإنسجام وإدنماج وبمحاكاة لتجربة حب فاشلة عشتها يوما، وكان زميلي عبدالحكيم قد شرح لي نص وكلمات القصيدة ورردها على مسامعي حتى حفظتُها، ومن كلماتها التي أستحوذت على وجداني:

لا تكذبي إني رأيتكما معا.. ودع البكاء فلقد كرهت الادمعي

ما أهون الدمع الجسور إذا جرى.. من عين كاذبة فأنكر وأدعى

إني رأيتكما.. إني سمعتكما.. عيناك فى عينيه.. فى شفتيه.. فى كفيه.. فى قدميه

إلى أن يقول:

ماذا أقول لأدمع سفحتها أشواقي إليك.. ماذا أقول لأضلع مزقتها خوفا عليك

أأقول هانت؟.. أأقول خانت.. أأقولها؟.. لو قلتها أشفي غليلي.. يا ويلتي..

لا، لن أقول أنا، فقولي ..

لا تخجلي.. لاتفزعي مني فلست بثائر.. أنقذتني من زيف أحلامي وغدر مشاعري

فرأيت أنك كنتِ لي قيدا حرصت العمر الا أكسره.. فكسرته

ورأيت أنك كنت لي ذنبا سألت الله الا يغفره.. فغفرته

***

 

(5)

قراءتي الصاخبة تحولني إلى مجنون !

كنتُ أذاكر دروسي بصوت عالٍ.. القراءة الصامتة أو حتى بصوت منخفض لا تروقني، فضلا أن حصادها شحيح ومتلاشي أو قليل الأثر.. مزاجي الصاخب لا تناسبه القراءة الصامتة التي لم آلفها، ولم أعتاد عليها، بل أجد أن القراءة الصموتة تتعس ذاكرتي وترهقها، وتحتاج مني إلى نكز مستمر يفقد أهميته بعد قراءة صفحة أو اثنتين، فيدب في أوصالي الملل والسأم وربما النعاس بعد حين، وفي أحوال أخرى يطيّر الصمت ذاكرتي في كل اتجاه، وأبدو كطفل صغير عديم التمييز، يلاحق ظل نحلة تحوم على الأزهار، فلا يظفر بها، ولا يطول الزهر..

عندما أقرأ بصمت أجد نفسي كثير الشرود والشوارد، وأحيانا يداهمني النعاس بعد ساعة إن طاب المقام، وفي أخرى أشعر بملل يتمطى أوصالي، وتيه يجرفني بعيدا إلى حيث لا أريد.. أجد نفسي بعيدا عمّا أنا فيه، وبعيدا جدا عمّا أكون بصدد قراءته..

لا أدري كيف لازمني أسلوب القراءة بصوت عالي من الإعدادية، ثم وجدتُ نفسي في المرحلة الثانوية أكثر تعلقا به، ولا أجيد ما يناسبني غيره.. وفي الجامعة، ثم في المعهد العالي للقضاء صارت طبيعة أو ربما تحّول إلى طبع لي في القراءة، لا أستطيع مفارقته، إلا لضرورة أو حتمية ملحة..

كانت نسبة استيعابي وأنا أقرأ بصوت عال أكثر بكثير مما لو قرأت بصوت منخفض، وكان تركيزي وأنا أقرأ بالصوت العالي أكثر بأضعاف من تركيزي وأنا أقرأ على نحو صموت.. قراءتي الصموتة تجعلني أهدر كثير من الوقت، مقابل قليل من الفائدة، وأجد جل هذا التبديد أقضيه في ملاحقة شوارد ذهني التي تتطاير في كل صوب واتجاه..

***

كنت أخرج من القسم الداخلي إلى الصحراء، وأذرعها طولا وعرضا وأنا أُذاكر دروسي بصوت عال، بل وأشير بالأيدي والأرجل دون إرادة، وأسير بعض خطوات وأتوقف، وأكرر العبارات حتى أفهمها، وأحاول حفظها، وما أن أنتهي من درس اكتب على كثبان الرمل (ربي زدني علما) وأحيانا أضيف (من المهد إلى اللحد) افعل ذلك بدافع وساوس محض يأخذ هو الأخر قسطه من وقتي المهدور، وبات من يراني عن بعد، ويشاهد حركاتي يظن إن بي مس من الجن، أو أنني بالفعل مجنون .. كنت أقرأ بفمي ويداي وقدماي وكل حركات جسمي وعضلات وجهي الشحوب الذي تلفحه الشمس والريح، فتتحول قراءتي إلى ما يشبه القراءة الصاخبة المشبعة بالحركات والنشاط المقوي للذاكرة..

إنه جانب من اجتهاد وجدت نفسي فيه أفضل من أي وقت مضى اهتماما ومثابرة وبذل مجهود.. شعرت بأهمية التفوق، وتعاطيت مع طموحي، وما أروم بمسؤولية أكبر..

في مدرسة “البروليتاريا” صرت أقدر أهمية التعليم، وأهمية الاطلاع والمعرفة.. وبدت الثقة بنفسي تزداد أكثر، والمعرفة تطيب وتلذ كلما أمعنت في الدراسة وغرفتُ من المعرفة المزيد.

***

 

(6)

تحوّل معرفي جديد

في المرحلة الثانوية كنت أقرأ وأتأمل وأنا أجوب الصحراء بعد ظُهر أيام الأسبوع التي أختارها، وأوزع الاتجاهات وأذرع كل يوم اتجاها فيها، وأحيانا أقصد وجهة في الاتجاه بزاوية معينة في الصحراء ذات الامتداد العريض، ثم أعود دون أن أسلك بالضرورة نفس الطريق..

أوغل في الصحراء إلى أقصى ما يمكنني بلوغه وكأنني أبحث فيها عن عالم جديد، مع مراعاة وقت العودة والغروب، حتى لا يهبط الظلام قبل عودتي إلى مكان السكن في القسم الداخلي..

كنت أشعر وكأنني أول بشر يجوب تلك الصحراء المهملة أو التي تبدو بكرا، ولا أثر لافت لفعل الإنسان فيها، على امتداد عريض.. كنت ابدو كأول رحالة على ظهرها يطويها بقدميه..

مثلما كنت اطلق في الصحراء صوتي العالي، كنت أيضا أطلق العنان لعقلي المتسائل، وأمام الشك كنت أفتح الباب على مصرعيه.. كانت الحيرة المتسائلة تستحوذ على كثيرا من تفكيري..

كان التناقض يحتدم بين التصورات التي تنشّأت عليها، وما تعلمته في مادة التربية الإسلامية من جهة، وبين ما أتعلمه في الجغرافيا والأحياء والفلسفة وبقية العلوم من جهة أخرى.. كانت الأسئلة تحفّز عقلي ووعيي الذي لازال طريا وقليل المعرفة.. أتطلع بشغف لمعرفة كل ممكن وجديد..

عرفتُ وبتراكم معرفي أن التسليم لا يصنع وعيا ولا معرفة، بل يصنع تخلفا وخمولا وبلادة.. الجدل والتناقض والبحث عن إجابة على الاسئلة التي تعتمل في الوعي ـ حتى ما كان بسيطا منها ـ هي من تخلِّق المعرفة وتضيف إليها، وتراجع مع ما علق في الذهن من جهل و وعي زائف وفهم خاطئ للأشياء والظواهر..

كانت الأسئلة المشككة تفتح ذهني لمعرفة أكثر، ومنها بعض تلك الأسئلة العصية على الجواب، والتي كانت تغضب منها أمي في عهد طفولتي البريئة والمتسائلة..

كنتُ أتأمل الصحراء وأوغل فيها أكثر رغم هجيرها ولفح الريح والرمال الحرّا.. كنت أسأل نفسي: هل كانت هذه الصحراء على هذا الحال منذ أن وجدت الأرض أو خلق الله البسيطة؟!

كنت أتوقف على قطع من الأحجار الصغيرة والغريبة عنّي وهي أحجارا سوداء خفيفة الوزن مجدورة أو مملوءة جدرانها الخارجية بالفرغات الكثيرة، والغير متجانسة مع الصحراء وطبيعتها، والواضح أنها قادمة من مكان ووسط يختلف تماما عنها، وكان أغلبها بحجم قبضة الكف أو أكبر منها قليلا، وأسأل نفسي: هل هذه القطع كانت يوما ما أجرام سماوية أو كويكبات تسبح في الفضاء؟! هل هذه بعض من النيازك والشهب التي يرمي بها الله الشياطين؟!

وحالما أشاهد القواقع المتنوعة في الصحراء كنت أسأل: هل كان البحر يغطي كل هذه اليابسة؟! متى صعد البحر إلى هنا أم كان البحر هنا ثم أنحسر؟! وهل كانت القواقع درجة في سلّم تطور هذه الحياة؟!

***

أعجبني استاذ الأحياء الفلسطيني فارع الطول وذو البشرة البيضاء والمنتمي سياسيا للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وهو يشرح نظرية “داروين” في النشؤ والارتقاء.. كنت أتابعه باندهاش وذهول، وأنا أحدّث نفسي بالقول: تبدو معقولة ومنطقية إلى حد بعيد أو على الأقل بعض منها، ولاسيما المؤيدة بالأدلة والبراهين، أو التي أيد العلم بعض منها وبدت على درجة مؤكدة أو على مرتبة ما في سلّم الحقيقة..

ما كنتُ أسمعه من أستاذ الأحياء لم يسبق أن سمعت مثله من قبل.. كان كلام لافت وجدير بالاهتمام، وهو يتحدث عن سُلم التطور والارتقاء وكثير من التفاصيل.. وجدتُ بعض من مشترك أو مقاربة عن أصل الإنسان بين نظرية التطور والارتقاء لداروين، وبعض ما أورده إنجلز في كتابه أصل العائلة..

ربما أحسست بمنطقية النظرية أو جلّها، وهي في الحال الأسوأ لا تخلو من صحيح ومفيد.. استمتعت بطريقة عرضها، وبعض المؤيدات لبعض وجوهها والتي ربما زعزعت بعض قناعاتي وأعترتها كثير من الشكوك، أو صدّعت بعض من مسلماتي الراسخة والضاربة الجذور في وعيي، فضلا عن كونها تبحث للممكن عن آفاق عريضة..

أعجبتُ بمادة الفلسفة وبمدرسها الفلسطيني المائل للسمرة والمنتمي أيضا للجبهة الشعبية وبالسؤال الفلسفي المثار “هل الإنسان مخيرا أو مسيرا” والذي لأول مرة أسمع فيه ولطالما ظل يحفّز عقلي ويكشف هشاشة مسلماتي وأنا أتلمّس من خلاله عتبات وأبواب المعرفة..

عرفتُ من الفلسفة أهمية الجدل واصطدام وتلاقح الأفكار والنطريات وتوليفاتها وتطورها التاريخي وسيرورة المعرفة عموما.. وعيتُ أهمية الأسئلة والشك في المسلمات لصالح الحقيقة والمعرفة.. أدركت وهمي وكثيرا من وهن المسلمات التي كانت تستولي على عقلي فيما خلاء من سنين عمري الماضيات..

أعجبتني مواد العلوم والاجتماعيات إجمالا وشعرت أنها تشكل وعيي، وتصنع فرقا في معارفي المدرسية والعامة.. كانت تطرح على عقلي كثير من الأسئلة التي تقود إلى معرفة جديدة أو معارف أكثر إشراقا في وجه الجهل.. تبدّلت أشياء كثيرة في ذهني الصغير مما كنت أظن واعتقد.. كنت أشعر أنها تضيف لي شيئا جديدا لم أعهده ولم أعرفه من قبل.

وفي صف ثالث ثانوي بدأت المسافة بيني وبين ما كنت أعتقد تنزاح لصالح الشك أو بعضه.. استحضرت تلك الأسئلة التي كنت أطلقها وأنا صغير بتلقائية وعفوية وبراءة.. بدأت قناعات جديدة تتشكل وهي قناعات أكثر منطقية ومعقولية وبعضها مدعوما بالأدلة.. شعرتُ أن مفاهيم جديدة تتبلور وتتشكل في عقلي بعيدة عن الوجدان والعاطفة لصالح العقل والمزيد من الشك والإكثار من الأسئلة والتساؤلات..

***

 

(7)

بدون عيب.. مدرسة بدون اختلاط

كان طلاب مدرسة “البروليتاريا” الذي يبلغ عددهم المئات جميعهم من الذكور.. لا توجد طالبة واحده في المدرسة.. تصحُّر أجرد لا يعرف نبتة خضراء أو نسمة هواء عليلة حتى في الثلث الأخير من الليل.. لا نقطة ندى ولا قطرة مطر غير جفاف شديد يصدّع اليابسة.. “لا ماء ولا خضرة ولا وجه حسن”..  لا فرح ولا أمل ولا رجاء.. جدب وجفاف وغُبرة أينما وليت وجهك..

الماضي والمثقلين به يرون أن العزل والفصل بين الجنسين سلوك قويم تمليه قيم الاخلاق الحميدة، ثم يسترسلون في البسط والمقام حتى تعتلي ما تحت المآزر الرؤوس المعممة بالعيب والفتاوى الحازمات، فيما نحن نرى أن السوية والحياة المتعافية والمحصنة هي بالوعي والاخلاق الراقية وحسن التربية..

للاختلاط جذب وتنافس، وتجاوز لموروثنا الثقيل، وتغلّب فذ على عقد اجتماعية مستحكمه.. الفصل والعزل يثقلان الكواهل بغربة عن العصر، والسير إلى الوراء عكس المستقبل الذي نريده وننشده، والحياة تحت ضغوط مكبوتات العقد المتورمة بالاحتقان الشديد، والهوس الجنسي المستولي على التفكير والشوارد، والاستحواذ الباذخ على الوعي والاهتمام، والتنفيس الغير سوي، والانحراف السلوكي المشين، ومغادرة ما يفترض من سوية وحياة طبيعية متعافية..

ليس من السوية أن تنتظر عطلة رأس الأسبوع لتقطع مسافة تزيد عن العشرة كيلو مترات لتختلس نظرة من فتاة تحبها قد تجدها وقد لا تجدها، والأمر متروك للصدف وحدها، وكانت الصدف بين قليل ونادر..

ليس من السوية أن تحب بكتمان شديد ثلاث سنوات متوالية دون أن تدري من تحبها أين أنت!! ليست متعافي إن قضيت ثلاث سنوات تحب من طرف واحد دون أن تستطيع البوح أو أن تصل بهيامك إلى من تحب!

ليس من السوية أن يستحوذ عليك الخجل، وتظل مسكونا به حتى ينبعج جبينك من اكتظاظه، وتفوتك الفرص تباعا، وحبك الكسيح لا يحصد غير الخيبة والتعاسة والخسران.. ليس من السوية أن تتمنّى أن تعيش مع من تحب ليلة واحدة مقابل أن تحكم على نفسك بالإعدام بثلاثين رصاصة في صباحية غير مباركة.. هذا ما تمنتيه في يوم مخنوق ومتأجج بالثورة والبراكين التي تكتظ داخلي.. إنها معاناة مع غريزة مستبدة، وجوع جنسي شديد، وفكه مفترس ومرعب..

لو وجد الاختلاط أقصى ما أتصوره أن يحدث هو البحث عن الحب والسعادة المرجوة.. البحث عن فارسة الأحلام، أو الزوجة المناسبة في المستقبل.. أما والحال مختلف والعزل قائم، فقد وجدتُ من يقطع الأميال ليمارس الجنس المنحرف مع أنثى الحمار، والبعض كان يذهب إلى “السيسبان” ليطفئ عنفوان الجنس المشتعل مقابل أن يدفع المال..

بعضنا يشاهد التلفاز ويتابع المسلسلات والأفلام، ثم يعيش الدور الذي يتخيله ويخرجه مع الممثلة شمس البارودي أو الفنانة يسرى، فيما كنت أخوض جدلا مع البعض عن أحلى وأجمل النساء حتى انقسمنا الى فريقين، ثم نتجادل حد الاحتدام، ونستعرض مفاتنهن، ونتراهن على الأجمل التي تليق بمشجعها، ثم نبحث عن حَكم فيما اشتجرنا عليه، ومن يحكم في غير صالحه يذهب باحثا عن حَكم آخر، حتى ينقسم الحكام أنفسهم؛ ليبحثوا هم أيضا عن حَكم جديد.. من هي الأحلى والأجمل وردة الجزائرية أم عزيزة جلال؟؟ وكنت في اصطفاف وردة..

كان حلمنا أن نتعلم ونجد لقمة عيش تعيننا على الصمود في وجه الجوع، وعندما تحقق هذا الحلم أو بعض منه صرنا نرى الاختلاط حلم واحتياج.. تطلعات الإنسان لا تنتهي عند تحقيق حلم معين .. فالأحلام أيضا تتناسل كالضوء..

كنّا نذهب أنا وصديقي محمد عبد الملك إلى ثانوية عبود المختلطة لوجود سكن لدى قريب له في حرم تلك المدرسة.. كنت أرى هناك الحرية هناك تنبض بالنور، والحب والتصالح مع النفس، فيما أنا أعتصر بصمت ألما وغربة وفقدان..

شعرتُ بأسى جارف وأنا أقارن مدرسة “البروليتاريا” بمدرسة عبود التي كانت تعيش الاختلاط وتنبض بالحياة والحب والفرح.. بدت مدرستنا في هذه المقارنة مظلومة مثلنا.. تبدت كصحراء مجدبة ورياح تلفح عيوننا المرهقة بالتراب على مدار العام، فيما مدرسة ثانوية الشهيد عبود في دار سعد كانت أكثر من حلم عصي على التحقيق.

لطالما تمنيتُ أن نقوم باحتجاج نطالب فيه على عنتر والقيادة في عدن بحق الاختلاط أسوة باحتجاج تحسين التغذية، و لكنني كنت خجولا ولا أتجاسر على إعلان رغبة من هذا القبيل حتى همسا.. داخلي بركان يثور ويغتلي، فيما خجلي وحيائي طبقات فوق بعض من فولاذ وجليد تمنع وتقمع إعلان ما يُعتمل داخلي..

كنتُ أتورم بالكبت وأحتقن.. أحاول في وعيي تحطيم كل تقليد ومعتقد.. انظر إلى الأمر بحد يتجاوز ربما ألف سنة عما هو سائد.. كنت أريد عالم بفضاءات ومدارات الكون.. عالم غير مثقل بالقيود والحدود والتقاليد.. إنه فيض من غيض، ومن تبعات اشتعالات الجنس المثقل بالعيب والعادات الثقيلة المسورة بالعزل والفصل بالنار والحديد..

كنت متطرفا حد الجنون، وما كان لهذا الجنون أن يكون لولا احساسي بهذا العيب المستبد، والقمع الاجتماعي الصارم، والكبت الكبير المحتقن.. أشهد لصديقي محمد عبدالملك اتزانه مقابل أفكاري التي تطرّفت بين المطرقة والسندان، ونار رغبات الجنس المكبوتة والثائرة على واقع مثقل العيب..

درست وتخرجت من الثانوية العامة في مدرسة البروليتاريا عام 1981 بنسبة 82% ولم يكن الحصول على هذا المعدل يومها أمرا يسيرا وهي نسبة كانت تؤهلني لمنحة دراسية في الخارج، ولكن كنت أيضا خجولا وقليل “المعرفة” و لا يوجد لي معينا أو سند بالحق.

***

 

(8)

مراهقتي.. وتجربتي الأولى في الحلم ..

كبت يشتد ويحتد.. حرمان يفجِّرني ويتبركن في أغواري، ويشعل حرائقه في أقصي مداي.. مهوسا بفراغي الجنسي.. مهوسا طوال اليوم.. مهوسا في الصحو وفي النوم.. التحريم يمارس طغيانه، لا يترك للحب مكان.. العشق محرّم والحب حرام.. مجتمعي يفجّر جمجمتي.. يفتش ما أخبئ فيها، وعمّا تخفيه خائنة الأعين..

مجتمعي مبلي بوهم العفة، ويعاني من حَوَل العين.. يُصيب عين النملة، ويخطئ حجم الفيل.. لا يرى الخشبة في عينه ويرى القذى في عين أخيه.. يترك القضايا الكبرى، ويلاحق عاشق ليل.. مشغول بأنفاس المرأة، على حساب ألف قضية..

مجتمعي مولع تجريم.. معوق ومعاق الذهن.. عاهاته أكبر منه.. مجتمعي تحكمه الغلبة.. الدم رخيص جدا، ومع الفقر جاري التطبيع.. الفقر سنّة في هذه الدنيا.. الموت باذخ جدا، والعصبية قدر مألوف.. البوح جُرم وحرام.. تربية من عهد الوأد.. اسم الأم عار بين الصبية.. مجتمعي محكوم بالعيب.. مجتمعي محكوم بالنار..

المنع يزيد الرغبة.. شبقي يبحث عن لذة.. قدري يحاصره الضيق، محصورا أعيته الحيلة.. ناري تتلظى في شراييني، وخيول العشق تصهل في مجرى الدم.. تائه في التيه الأول، أركض خلف لهاث الريح، أبحث عن امرأة تطفي الأوار..

تحت جلدي ألف رقيب.. العيب يتربص أنفاس اللهفة.. يُلجم جموح الرغبة.. القمع القادم من عصر الوأد الغابر، يريد وأدي في مدرستي المنفية في صحراء جرداء، تتلظى قيضا وهجيرا وشواء.. وسؤال يكبر بين ضلوعي الملتاعة، يلسعني بسوط من نار: أين أفرغ أحمال الشهوة؟!

***

حمتُ حول الحِمى مرات عده.. حمتُ لأقع فيه.. أريد كسر المزلاج، وقلع الشمع الأحمر في بلاد يثقلها المنع، ويحاصرها الممنوع.. فضولي يدعوني لسبر الأغوار، واستكشاف العمق الأبعد.. وطن الأنثى عميق جدا.. صوت الأنثى ينادني: اليوم لحوح، لا تتردد، لا تتأخر.. ادرك مبغاك، فالغيب غدا، وغدا في ظهر الغيب لا يضمنه أحد..

تقتُ لأن أبحر في الذات، وسبر غموض الأغوار، وكشف خارطة الأنثى، وتفاصيل ممارسة الجنس.. شُهد يستدعي الشهوة، أشهى من عسل النحل، وأطيب من أجاج الجنة.. هكذا قال الشيطان، ودعاني لأسافر في فضاء اللذة، وسماوات العشق العليا.. أصعد كالضوء أو كالنجم دون براق أو معراج..

هي مغامرتي الأولى، لأكتشف فيها نفسي، وأكتشف الجنس الآخر، صلّيت صلاة الحلاج.. صليتُ صلاة الروح لأستخير بها ما أفعل! صليتُ صلاة الاستسقاء.. دعيت الغيث للأرض البور.. أخترت عبور الكشف، لأجيب على أسئلة الحيرة.. أردتُ أن أعرف نفسي، لأجيب على أسئلة تتحفز وتجوس.. أسئلة تذرع عقلي الباطن، كالأسد في أقفاص محابسها.. اسئلة تشتعل في عمق الوعي، لتضيء مجاهيل النفس وردهات الظلمة..

***

ناداني صوت الحسناء: أنت يا هذا تعال.. خض التجربة الأولى.. جرّب مرّة.. أرتحل في جسد المرأة.. بوح بسرك.. ماذا تفعل بالسيف المُغمد.. أنت لست خزنة آثار.. أنت لست متحفا أو صالة عرض.. هيّا أمشقه في وجه الشمس.. أصقله وأشحذه في النار.. أنفخه حتى الآخر ..

 أنفخه حتى ينتشر ويحمر.. أغرسه في اللحم الحي.. هيا افعل يا هذا.. ستشعر لأول مرة أنك كائن حي، مغمورا بسعادة تتفجر فرحا.. سيغمرك الإحساس أنك لم تحيا من قبل.. لا تترك الأرض البور دون أن تمطرها بالقطر وبالنور، ولا تترك الأرض تبور.. فالأرض لمن أحياها، وأسأل محيي الموتى..

قال الشيطان: يا هذا رفقا بالحال.. عمرك يمضي هدرا.. لا تترك حاضرك يذوي حُزنا كالشمعة في ليل بارد.. لا تدع سنين العمر الآتي نهبا للريح.. حتى لا تبكي ماض فات، وشباب أهدره الجهلة.. حاضرك عض عليه، بنواجذك والناب.. امسكه بكلتي يديك.. اجترح مأثرة كبرى، وأعترش مملكة الأنثى، حتى لا تندم، وتبكي في الغد شباب ضاع..

قالت الحسناء: أنت يا هذا.. اكشف السر المغلق.. اكسر أصفاد التقية.. ثر على الوهم المثقل، واكسر حصار العزلة.. اكسر أقفال السر وأرقام الشفرة.. الجنس ألذ في عهد الكبت، والحرية أمتع بعد القمع، والرغبة أكثر ولعا وجموحا في عهد الممنوع..

قال الشيطان: التقية حبس ونفاق.. التقية زيف وقناع.. اهدم محبسك، وزح قناع الزيف؛ لترى الدنيا من آخرها.. التقية حكم بالموت.. التقية لا تتصالح مع روح تواقة للحرية.. الحرية تخنقها الجدران، والتقية جدار تقتلنا في اليوم كذا مرة.. التقية خيانة للروح.. العري يتصالح مع أصحابه، والقبح الأبشع أن تلبس ألف قناع..

قالت الحسناء: لا تحتزم الموت، ولا تفجّر نفسك من أجل الجنة وبنات الحور.. اغتنم حاضرك حتى تثمل.. احيي الأرض ولا تقتل إنسان، والله رحيم غفّار.. يا هذا تمرد واستكشف خارطة المرأة لأول مرة.. ستكتشف إن الله بعين الأنثى يغفر، وفي نبض النهد ستسمع كل الأسماء الحسناء، وفي محراب العشق سبّح في ملكوت الله.. الله رحمان ورحيم يرحم.. غفار وغفور يغفر..

***

تهيج اللذة في أوصالي.. أغالب ناري.. يغلبني الحال.. نار الشهوة تتمطى جسدي المنحول.. أول مرة في حياتي أرى امرأة تتعرى.. أول مرة أرى تفاصيل امرأة تتكثف تحت جسدي المجمر.. أول مرة أغوص في تضاريس امرأة تمنح خبرة.. آهات الأنثى في ذروة لذتها قيامة.. تمنحك نشوة.. تشعرك أنك ملك الكون..

قال الشيطان: أمطرها شوقا، امطرها قبلا وحنينا لتلتذ.. اكتشف كل الأبعاد.. اكتشف كل الأكوان.. اكتب وشمك على ذاكرة الأنثى.. على أبواب العشق، وشرفات النور.. طف على النهدين حتى تدوخ.. بح بالسر في محراب العشق الملتاع..

قبّل عنقا عبقا بالعطر الساحر، العنق يطول مع التقبيل، ويصير بطول النخلة.. ما أروع أن تتسلق نخله لتذوق عذق يقطر شهدا، وسعادة تملأ الكون.. عنقا مشتاقا لدون العشرين، أطلق شبقك في الحرث، وشق قناة الوصل من أول ضربه..

سفنك مثقلة يا هذا بأحمال الشهوة.. أفرغ سفنك من حمل طال.. لا تتمالك أعصابك وهي تتأوه متعة.. أكسر أقفال البوح.. تختلط أنفاس فرسان العشق بصهيل خيول الرغبة والبوح الملتاع.. نهود تهتز بالعشق المتأجج ثورة، ورعشات تطلق عنان الشهوة في أرض الله، وجنان يلتذ.. مطر يهمي، ورضاء يغشاك، وسكينة بعد قضاء الوطر..

دونها صار المُلك، وتهاوت شماريخي من أعلى البرزخ.. هويت كشهيد؛ وأنا أسأل: هل تتزوجني هذه الأنثى.. أني أحبك يا هذه.. أبحث عنك حد التيه.. طار عقل الأنثى.. دهشتها كانت أكبر .. صمتت برهة؛ ثم قالت: “أنت يا هذا تختلف عن كل الناس”..

لعنتُ الشيطان بسري، ولذت إليه مرّات عدة، لأعيد الكرّة، وهو يقول: استمتع واعطي العمر حقوقه.. أنت لم تقتل.. أنت لم تفسد.. أنت لا تظلم ..أنت تعشق وتصلي للرب صلاة الحب اللاعج، واعلم أن غفران الله أكبر من هذا الكون.

كانت غفوة مترعة اللذة، استيقظت من عمق الغفوة، وأنا أتوب وأستغفر عمّا رُفعت عنه الأقلام ورُفع عنه اللوم..

***

يتبع..

 

موقع يمنات الاخباري

موقع برلماني يمني

صفحة أحمد سيف حاشد على تويتر

صفحة أحمد سيف حاشد على تويتر 2

حساب أحمد سيف حاشد على الفيسبوك

صفحة أحمد سيف حاشد على الفيسبوك

قناة أحمد سيف حاشد على التليجرام

مجموعة أحمد سيف حاشد على التليجرام

 

“Yemenat” news site

MP Ahmed Seif Hashed’s websit

Ahmed Seif Hashed “Twitter”

Ahmed Seif Hashed “Twitter”

Ahmed Seif Hashed “Facebook”

Ahmed Seif Hashed’s Facebook page

Ahmed Seif Hashed

Ahmed Seif Hashed channel on telegram

Ahmed Seif Hashed group on telegram

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى