تغاريد غير مشفرة

من يومياتي في أمريكا .. أطرش في زفة

برلماني يمني

أحمد سيف حاشد

وصل عمر السعدي إلى المكان المتفق أن نلتقي فيه.. ركن سيارته البيضاء “اللكزز” في مكان قريب.. أخرج من سيارته المهابة حقيبة ذات عجلات أنيقه، وأقبل نحوي وهو يجرها من ممسكها، فيما حقيبتي الشراعية السوداء كانت مبلولة ومشدودة على ظهري بحزامين على الكتفين كطفل شقي في مدرسة ابتدائية.

بادرني بابتسامة عريضة وروح ودوده وهو يناديني يالغالي.. تصافحنا بحرارة.. أتجهنا نحو المحطة، ثم البوابة الخاصة بالقطار ثم الانتظار في موقف القطار.. خلال هذه التنقلات كان يسأل وينهمك بالبحث والسؤال وينتقل من هذا إلى ذاك، فيما توليت مساعدته في جر الحقيبة التابعه له بعد تردد منه وممانعة.

بدأت أشعر نحوه ببعض ألفه في علاقة مازالت قيد الإختبار.. أنا أستحسن العلاقات حالما تكون بعيدة عن التعقيد والتكلف والرسميات.. حالما جريت حقيبته بدلا عنه أحسست بمساحة أكبر من الحرية بعيدا عن “الأتكت” الذي يضع لحريتي قيودا ومعاييرا تمنع الحميمية وتحول دون اكتشاف الآخر.

صعدنا إلى القطار وأخذنا في البحث عن مقاعدنا المحجوزه “درجة أولى”.. هنا المقاعد وثيرة والطاولات أنيقة.. كل شيء هنا بدا لي متناسقا ومريحا.. آثرني على نفسه وأجلسني جوار زجاج النافذة، ثم أنتقل بعد دقائق إلى كرسي وطاولة أخرى لاسيما أن المكان فيه فراغ واتساع.. كانت المقاعد الشاغرة أكثر من المقاعد المشغولة بالحضور.

في القطار خضت صراعا مع النوم الذي كان يجتاحني أحيانا بنعومة، وأخرى كموجة عالية أو سيل عرمرم.. حرصت قدر ما أستطيع أن لا تفوتني المناظر الرائعة والطبيعة الخلابه التي يشق القطار طريقه فيها.

كان إذا دخل القطار نفقا تسبل جفوني نعاسا وأستسلم لنوم لذيذ، ولكن ما ألبث أن أفوق بعد صعوده إلى السطح دون أن يمنع ذلك من وجود كر وفر في مغالبة النوم حتى أعود إلى الاستمتاع بجمال الطبيعة وتفاصيل الحياه التي أمرق بمحاذاتها.

وصلنا إلى بوابة المحطة في واشنطن.. أثار إستغرابي أن نجد أنفسنا في طابور.. الأول ثم الذي يليه في انتظار سيارة أجرة.. أنتقلنا إلى الفندق لوضع أمتعننا، ثم مباشرة إلى قاعة المؤتمر.. تسابقنا مع الزمن ووصلنا بعد الموعد بربع ساعة بسبب المواصلات والخطأ في الوصول إلى العنوان الصحيح.

دخلنا إلى قاع المؤتمر .. نهضت”هولدا” من مقعدها الذي كان على مقربة من بوابة القاعة.. استقبلتنا بابتسامة طفل ووجه ألق ومشرق.. حيتنا بهمس، ثم ناولت كل منا حقيبة تحتوي على بعض وثائق المؤتمر ومنشورات متعلقة به، بالإضافة إلى قلم جاف ودفتر مكتبي.

***

في قاعة المؤتمر كان علينا أن نسمع المتحدثين، ولكني أنا لا أعرف ماذا يقولون..!! لا يوجد مترجم ولا سماعات تحدثنا باللغة العربية كما يحدث في أكثر من مكان.. كان جميعهم في المؤتمر صامتين إلا المتحدثون، وجميهم يتحدثون باللغة الإنجليزية.

مرافقي المترجم الذي كان جواري حاول همسا أن يرد على أسئلتي باقتضاب شديد وصوت خفيض حتى لا يصدر إزعاجا ولا يشوش على الحاضرين في المؤتمر.. حاولت ارهف السمع دون جدوى.. أحسست أنني بحاجة إلى مترجم آخر يسمعني ويفهمني ما يقول.. احتاج إلى آله أو وسيلة تسترق السمع على نحو أفضل.. كان متحدث يأتي ومتحدث يغادر دون أن أعلم ماذا يقولون..!! كنت أشبه بأطرش بالزفة.

للخروج من رتابة هذا الحال الثقيل استعنت ببرنامج الترجمة في تلفوني محاولا أن أفهم شيئا مما يقوله المتحدثون.. كان شكلي في مقعدي أمام نفسي ليس أقل من ظريف وطريف، وربما مضحك في بعض الأحيان.. أحسست ان الافتقاد للغة القوم سباحة في التيه وغربة مضاعفة.

أستطعت أن أفهم شيئا من هنا وشيئا من هناك.. كان رأسي أشبه بمسب المجاذيب.. شعير وذرة ودخن وما ساقه الله إليه.. من هذا قليل ومن ذاك قليل، وقليل على قليل يزيد.. ألملم كلمة من هنا وكلمة من هناك.. تمكنت ببذل مجهود فردي من خلال الاستعانة بتطبيق برنامج المترجم بالتلفون فهم ما أستطعت، وعلى نحو تراكم.

بعد الجلسة الأولى صار العثور على مرافقي في المؤتمر صعبا، والعثور عليه أحيانا يحتاج إلى جائزة.. كان أشبه بكرة زئبق صغيرة تتسرب هاربة من بين أصابع يدي.. أجده هنا ثم ما ألبث أن لا أجد له أثر رغم طوله الفارع ورأسه الكبير وصلعته العريضة وجبهته الشاطحة.

كنت أراه في الطابق الأول ثم أعثر عليه بعد بحث في طابق أخر وربما في قاعة أخرى أو في أروقة المكان منهمكا في إتصال يخصه وما أكثر اتصالاته..!! أعادتني قصتي معه بعد تقادم ونسيان إلى بعض من طفولتي حالما كنت ألعب مع أترابي لعبة “الغميَّاني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى