طيران بلا أجنحة .. ساعة صليب سويسرية..! “محدث”
برلماني يمني
أحمد سيف حاشد
كان ذلك اليوم بالنسبة لي يوماً استثنائياً فريداً لا يشبهه أي يوم من أيام حياتي التي خلت وأجفلت.. كنتُ أشعر أن فرحتي تكفي أن تغمر الكون كله، وتفيض على كل متسع يبلغ أطرافه وأرجائه التي لم يدركها علم، ولا يبلغُها نظر.. أحسستُ أنه فرح يغفر ذنوب البشر جمعا، ويعدل الحزن كله.
كانت فرحتي كبيرة لا مُتَسعَ لها، وليس لديّ قَدَر قادر أن يلملم أطرافها.. مزدحمة ومكتظة.. كثيرة لا عد لها ولا حصر.. أكبر وأكثر من فرحة تائب نال مُناهُ بعد منيّة، ومن راهب ظفر بجنة الرّب التي لطالما عاش من أجلها شظف العيش وضيق اليد، وأنكر حقّهُ في الحياة لينالها في دار ثانية.. فرحة الذي صبر وجالد حتى نال مناه بمنيّة.
يا إلهي .. أبي يهديني ساعته الصليب السويسرية، بعد أن أهداه صهره القادم من “إنجلترا” ساعة “أورينت”.. كان وقع هديته في نفسي وقع الدهشة التي لا توصف، وأثرها في النفس والذاكرة حياً لا يزول، حتّى وإن زالت من الأرض كل نعمة.
هذا يحدث رغم أن الفرق بين ساعة أبي وساعتي التي أهداها لي أبي طفرة تقنية، وسنوات طويلة من التطور والرقي.. ساعتي تعمل يدوياً بتدوير كمانها حتى يستغرق كل دورانه، فتركض وتدور عقاربها دون توقف يوماً وليلة، فيما ساعة أبي الجديدة تعتمد على حركة اليد والنبض، أو كما كان يقول أبي: “تمشي على الدم”، وهو أمر لطالما حيُّرني، وأثار تساؤلاتي وعجب طفولتي!!
يا إلهي.. أنا المعجون بالحرمان والتمنّي.. أنا الطفل الذي لطالما تمنّى يوماً ساعة من ورق أو ربل “بلاستيك”، فخاب مُناه، ولم ينل ما تمنّاه، وحصد مرارة وحسرة، فعوّض تمنّيه أن رسم خربشة ساعة على معصمه، واكتفاء بها ليصنع منها سعادته وفرحه.
يا إلهي.. كيف ألملم فرحتي، وقد وجدتُ ما هو أكثر من الحلم والتمنّي.. ساعة الصليب في عمري ذاك، وفي ذاك الزمان، حلم بعيد المنال، بل هو أبعد عليّ من مستحيل.. تأتي بها صدفة عجيبة لا تتكرر ولا تأتي إلا فيما ندر.. شيء لا يصدّق.. مفاجأة فرح مهول لا يحتملها قلبي الصغير.. تحوّل قلبي إلى صُرّة فرح تحلِّق في سابع سماء.. معارج ومناطيد ملوّنة تنشر سعادتها في كل الأمكنة بزهوٍ وانتشاء منقطع نظيره.
أنقصتُ من طول سلسها الفضّي أكثر من نصفه لتمسك جيداً على معصمي المُنهك.. كنتُ أرى الكون كله معلقاً في يدي النحيلة.. يا إلهي.. كانت الفرحة لا تسعني، ولا تفارق عيني معصمي.. فرحة تبلغ بي حد البكاء، وتقفز دموع الفرح من محاجر عيوني التي ألفت الحزن واعتادت عليه؛ فيبرق التماعاها لتضيء الليل، وتتوج النهار بتيجانها.. دموع الفرح تسيح على خدودي الضامرة والمتخشّبة، فتعيد لها النظارة، والحياة المشبعة بسعادة عابرة للخيال، وكل ما هو معروف ومعتاد.
ليلتها لم أنَم إلا غفوة مرّت قصيرة وعلى عجل.. نامت ساعتي قبل غفوتي تلك، وهي تتوسّد عيوني التي لا تريد أن تقطع سعادة أعيش سويعاتها مع ليلة القدر.. كنت ألتذ بها تارة كعاشق ولهان، وأخرى كعريس في ليلة زفافه.. أحتسي السعادة حتى الثمالة.. لم أشعر أن الحياة جميلة كذلك اليوم وتلك الليلة البهيجة.
كانت عقاربها الفسفورية الخضراء تضيء في الظلام كجوهرة أجتبي منها درراً وأهلة، وغيمات ماطرة.. تأسر عيوني وتزيح عنها حزناً وحرماناً استداما.. جاذبة وأخّاذة تأخذني من معصمي بعلمي وحلمي إلى ما بين النجوم، بل وتعبُر بي إلى تخوم الأكوان والسُدم والمجرّات البعيدة.
كان صوتها في سكوني “تيك تيك” يحييني ويشجيني.. يشعرني بسعادة غامرة لا حد لها ولا مدى.. صوتها يسري في رأسي كنشوة فارس أنتصر بمفرده على جيش جرار عرمرم.. صوتها يشبه نبض جنين في بطن أمه.. قيثارة فنان غجري يستعرض إبداعه أمام من يحب ويعشق.. عاشق بلغ فيه العشق ذروته العليّة.. كنتُ أسمعها وأسمع خفقات قلبي، وأنا المتيم في حبّها والمبهور بها حد الدهشة والذهول.
كيف لي أن أنام والسعادة تجرف النوم من عيوني المستمتعة بلون عقاربها الفسفوري الأخضر؟!! كيف أنام وخفقات قلبي تتداخل وتتماهى مع صوت نبضها الآسر، كمعزوفة نادرة لا تشبهها معزوفة أو وجود إلا من باب المجاز.
تقلّبني الفرحة على فراشي يمناً ويُسرةً، وأنا استمتع بلونها الفسفوري كعاشق ولهان حين يلقى حبيبته في غلس الليل ودياجي العاشقين.. أتابع سحر عقاربها في الجريان كمن يتابع عشيقته الأكثر جمالاً في ضفاف نهر جميل.. كل لحظة أسألها عن الوقت الذي يستغرقني حد التيه ولا أريده أن ينتهي.
أجعل من الليل محطات ومواقف، وأسألها في كل فينة وأخرى عمّا بلغه الليل من مدى نحو الصباح.. لم أسمح للنوم ليلتها أن يأخذ منّي فرحتي إلاّ غفوة قليلة قُرب الصباح.. غفوة سريعة ناعمة وحالمة، تشبه غفوة ملاك على أرجوحة السماء بين الأكوان البعيدة.
وفي الصباح استعجلتُ النهوض.. كنتُ شبيهاً للصباح والضياء.. كنتُ أرى العجب العجاب يحيط بمعصم يدي النحيلة المتوجة بتاج ملك، أجلُّ من تاج هرقل وأعظم من تاج كسرى.. كنت أشعر أنني قد صرتُ مركز الكون، وأن الكون كله يزف فرحتي.
تلك الفرحة النادرة غفرت لأبي سنوات قساوته الأولى، وجعلتني أشعر أن الحياة فيها ما يستحق البقاء، بل والفرح الكبير، والأمل الذي لا ينام.
وفيما أنا اليوم أتخيّل تلك الفرحة العريضة؛ أسأل بأثر رجعي: كم ستكون فرحتي في تلك الأيام لو كان أبي أهدى لي جهاز “إيباد” أو “لابتوب” أو تليفوناً مطوراً؟!! لو حدث هذا زمن أبي لكنت من يومها إلى اليوم عالقاً في فرحتي دون ملل أو انقطاع.. كانت فرحتنا في تلك الأيام تختلف عن أفراح اليوم التي ربما لا تدوم ساعة أو يوم.
***
