مذكرات

طيران بلا اجنحة .. البحث عن مأمن في لجة الليل “محدث”

برلماني يمني

أحمد سيف حاشد

قفزتُ من فوق الدار ولذتُ بالفرار إلى مكان غير بعيد.. تسللت إلى مقبرة صغيرة في عرض جبل في ”إجت الجفيف”.. شعرتُ بالوحشة والقلق والخوف.. من المستحيل أن أنام هنا ولازال الفجر بعيداً.. مكان غير مأمون من مفاجآت ربما تختبئ أو تقبع قيد الانتظار.

كنتُ أتوجّس أن يخرج الأموات من قبورهم.. لا أعرف واحداً منهم، وهم أيضا لا يعرفونني اذا وجدوني فوق قبورهم أو قريبا منها، بل أشعر أن بيننا غربة وبرزخ يمنعاننا من أي تقارب أو تفاهم. ثم أنني لا أريد أن أسمع عذاب الموتى وهم يتألمون.. لا أحتمل سماع ملائكة العذاب وهم يسألان الموتى بما يعجمهم، أو يعجزهم عن الجواب، وما يأتي بعدها من شدّة وعقاب.

كنت أتخيّل مُنكر ونكير على نحو مرعب وبشع إلى حد بعيد.. يخلعان القلوب حتّى وإن كانت قطع من حديد.. جزع وهلع يتفجر ويزلزل الدواخل.. مخيالي ينبعج ويتمزّق بما أتخيّله من كاسر ومهول.. صدري يتكوّم داخلي، ثم يعج بالرعب المزلزل.. صور مُرعبة مُتخيّلة لا أراها إلا في بعض الكوابيس الثقيلة التي تصل بي إلى حواف الموت، وشهقة الفراق إلى الأبد.. ما أشبهما بعهد نعيشه اليوم، إن لم يكن عهد اليوم أثقل وأبشع وأرعب من منكر ونكير بألف ضعف، ومعهما عزرائيل قبّاض الأرواح.

كنتُ أتخيّلهما بشعرِ أشعثٍ وغبرةٍ مُخيفة.. وجهان متجهمان ومتورمان بالغضب والغلاظة التي تكاد أن تنفجرُ شروراً وحرائقاً واسعة تأكل أخضراً ويابسا.. في وجوههما قسمات وأخاديد عميقة ومريعة تتحفّزُ للوثوب علينا.. تستعجلان موتنا شهيّة في العذاب الذي لن يستطيعا أن يعيشا بدونه.

حواجب غلاظ كالمكانس، وشوارب مشعثه كالعفاريت.. آذان شعرها نابت فيها كالحطب، وشحماتها متدلية كالمشانق.. لحيتان كثتان كغابة أدركها اليباس.. هول وضخامة في الجسد.. شحم ولحم مكنوز في العوارض والمناكب والأرداف.. لا إحساس لهما ولا مشاعر ولا وجدان.. لا رحمة لديهما ولا رأفة ولا قلب.. بالغين في القساوة وساديين في العذاب.. يستمتعان بالألم وسماع الأنين والولولة.. يسألان الأموات في قبورهم، ويجلدانهم بسياط من نار حامية، حمراء تلتهب.

توقعتُ نزولهما من السماء بعد منتصف الليل ليتوليا الحساب والعقاب، وبقدر رعبي منهما، يرعبني أكثر أن أرى رجلاً أو امرأة يُجبران على الصلاة فوق صخرة من جهنم.. لا أتحمّل رؤيتهما على أي نحو كان، ولا أحتمل سماع أصوات الأموات بالألم والعذاب.

لقد سمعتُ حكايات كثيرة عن حياة الأموات في القبور، ولا أملك إلا تصديقها لأنني لم أسمع من يكذبّها، أو يشكك فيها.. هكذا نحن نتعاطى مع معظم المسلمات، وكثيراً غيرها..!! نتقبّل ما يروى ويتناقل دون تمحيص أو شك أو سؤال.

***

انتابني أحساس جارف بضرورة مغادرة هذا المكان الذي بدى لي مخيفاً ومرعباً.. عليّ أن أغادره في اسرع وقت دون تأخير.. رأيتُ من الضروري أن أنام في مكان أقل رعباً وخوفاً من المكان الذي أنا فيه.. أريد أيضاً أن يكون المكان الذي أبحث عنه أكثر أماناً من الضباع والسباع و”طواهش” الليل.

يجب أن لا أبعد كثيراً عن بيوت الناس.. إذا ما داهمني “طاهش” أو ناهش أو مفترس أجد من يسارع لنجدتي، أو أنا أسارع مستغيثاً إلى بيت قريب.. لقد سمعتُ كثيراً عن رجال كبار أكلهم “الطاهش” أو افترستهم الضباع، ولم يبقَ منهم في الصباح غير بقايا من عظام وأطراف.. هكذا كنتُ أحدّث نفسي، ويزداد روعي، وتتكالب عليَّ مخاوفي.

لجأتُ إلى مكان قريب من منزل شخص طيب يطحنه الفقر، اسمه ثابت صالح.. وجهه الشاحب يميل إلى السمرة.. رأسه ووجه صغير، ولكنه يفيض تسامحاً وطيبةً وسكينة.. كان يكدح كثيراً بإيجار زهيد.. يحرثُ الأرض للناس في المواسم المطيرة وليس لديه أرض.. يحمل الأحجار الثقال لبناء منازل للناس، فيما بيته متواضع وحزين، ولكن قلبه كان أكبر من قصر ملك، وأخلاقه عظيمةً، أعظم من أصحاب كل القصور.

سمع ثابت صالح خطواتي في الجبل، والليل في ريفنا له آذان.. سمع حصوات وأحجاراً تتساقط بسب تسلُّقي بعض الجدران ونتوءات الجبل.. أيقن أن هناك أمراً ما.. وجه ضوء كشّافه نحو الصوت وبدأ ينادي من هناك؟! كرر الأمر مرتين وثلاث.. أزداد يقيناً بوجود شيء يستدعي الاهتمام.

بدا لي شجاعاً حيث لم يكتفِ بمناداتي، بل صعد إلى المكان الذي كنتُ فيه ليستطلع ويكشف الأمر.. ربما كان قد سمع صراخي حال ما كان أبي يضرب رأسي في القاع، وأفترض أنني الطفل الهارب من قسوة والده في لجة الليل البهيم.. ربما ضوء الكشاف الذي سلّطه على مكاني جعله يرى ملامح طفل، فأراد التأكد أو استكشاف الأمر أكثر.. الحقيقة لا أدري غير أنه وجدني وعرفني، وألح عليّ أن أنزل لأبيت عند أسرته. نزلتُ برفقته.. رحبت بي زوجته وكانت صديقة أمّي.. لم تصدّق أنني من وجده زوجها في الجبل في تلك الساعة من غلس الليل.

***

رحبت بي زوجته ترحيب الأم المحبة.. صوتها الدافئ والرخيم كان يمنحني كثيراً من الألفة والود والشعور بالأمان.. أكرمتني وأشعرتني أن لدي أم ثانية وأباً حنوناً هو زوجها.. سألتني عمّا حدث، ولماذا كان كل ذاك الصراخ الذي سمعوه في بيتنا؟!

حكيتُ لها ما حدث.. اغرورقت عيناها بالدموع وسالت على وجنتيها البارزة كجداول.. ذبالة السراج الوالعة بيننا كشفت دموعها التي كانت تسيح بصمت غريب. شعرتُ بعاطفة جارفة عندهم، وحب كبير أبحث عنه.. ما أجملكم أيها البسطاء الطيبون.. قلوبكم بيضاء نقية عامرة بالحب، وماطرة بالحنان والجمال والمعروف.

وفي الصباح نقلت زوجة ثابت صالح الخبر بسر وكتمان لأمي المريضة بسبب ما حدث لها منّي ومن أبي، وطمأنتها بيقين، وبعد يومين عدتُ لدارنا بعد مفاوضات تتعلق بسلامتي تمت على خير.

عدتُ إلى دارنا وكان أبي يشكو لأخي “علي” الذي كان مسافراً عندّما حدث إطلاقي للرصاص من البندقية في ديوان دارنا.. سمعت أبي وهو يقول له: “شوف أخوك أيش اشتغل!!.. كان يريه جدران الديوان المثقوبة بالرصاص، وما لحق بها من ضرر.. ومن يومها أخذني أخي إلى بيته في نفس القرية عند خالتي أم علي زوجة أبي الثانية التي أغرقتني بحنانها وطيبتها الغامرة.

***

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى