مذكرات

طيران بلا أجنحة .. صوتي المذبوح ..!! “محدث”

برلماني يمني

أحمد سيف حاشد

عندما صرتُ طفلاً قادرا على التمييز، وبوسعه إدراك أبجديات معنى الحياة والموت، والفرق بين البقاء والرحيل، شاهدت ما يحز في النفس ويثقل الذاكرة .. أكثر من خمسين عاما خلت، لازالت عصية على الطي، ولا غالب لها بنسيان.. شاهدتهم يذبحون أرنباً، لازال صوته الصارخ يفجر ذاكرتي بالوجع، كلما استجررتُه بمناسبة، أو ذكّرني إليه مشهد من اليوم، وماكنت اخال أنني سأعيش طويلا، وأشهد كل هذه الحروب والكوارث والمآسي العراض.

أتذكر صراخه الفاجع قبل الذبح ببرهة، وكأن طفلاً قد تلبسه، وصار بعض منه، يصرخ بصوته المفجوع باحتجاج منفجر.. أتذكر وضع السكين على حنجرته المحشرجة برفض واحتجاج على إعدامه دون ذنب، غير رغبة من يشتهي أكله، فيما خفقات قلبه بلغت أوجها، وأنفاسه التي تشبه أنفاس مشارك في سباق الضاحية.

عند الشروع بذبحه، أتذكر اليد الثقيلة المطبقة على فمه، وهي تخنق صوته، وتخمد أنفاسه، فيما كان بعض من صوته المصعوق قد تطاير كالشرر، من بين أصابع اليد التي أطبقت على فمه، وكأنه صوت احتجاج وجودي مقاوم في وجه واقع مرعب، وبشع في تفاصيله.

***

لطالما تذكرت هذا المشهد المؤلم كما هو، وكأنه وقع اليوم، وأنا أقارنه بمشاهد مؤلمة، مرت أو ما زلت تمر.. أتذكره مليا وأنا أرى خنق أي صوت يريد أن يبوح بأوجاعه أو بأوجاع الناس، أو يريد الاحتجاج على الظلم الذي ينيخ بثقله على الكواهل، والقلب النازف، والمكروب من السلطة، والمنكوب بالغلبة، والقلم الذي يريدون إعدامه، وربما بلغوا في المطالبة بإعدام صاحبه معه.

يريدون كتم أنفاس الناس، وإخراس أصواتهم المذبوحة حتى لا يسمعها أحد.. يستخدمون يد السلطة والغلبة الثقيلة لقهرهم، وإخمادهم إلى الأبد.. يريدون إغلال أيدي الناس إلى أعناقهم، وكسر مقاومتهم، وإعدام صوت المستغيث، ولا مغيث غير الأجل.

إعدام معنوي يمارسونه بحق مواطنيهم لصالح طغيانهم. يريدونهم منقادين لهم كالقطعان. مستكينين ومستسلمين لهم كالعبيد. لا يريدون من أحد أن يبدي احتجاجاً أو اعتراضاً أو موقفاً أو رأياً تمارس فيه حتى الحد الأدنى من وجودك وإنسانيتك.

يريدونك أن تكون هم لا أنت. فبذلت ما في الوسع لأن أكون حيث أريد. أشعر أنني أمارس وجودي حينما أسعى وأبحث عن الحرية التي أتوق إليها، وأمارس إرادتي في وجه من يريد استلابها. أجد بعضي في مقولة الفيلسوفٌ والشاعر الأمريكي إمرسون “أفضل إنجاز هو أن تكون الشخص الذي تريد في عالم يحاول جعلك الشخص الذي لا تريد”.

هم يريدون سحق أي انتصار تحرزه مهما كانت ضآلته حتى لا تستريح ولا تبتسم، مهما طالت كآبتك، وخاب رجاءك.. فما البال إن كان هذا الانتصار تسجله عليهم.. إنه غرور ونرجسية السلطة عندما يكللها الطغيان.

يريدون أن يقلعون لسانك ويستلبون عقلك، وينتعلون حريتك، ويستبيحون استقلاليتك، وإفساد ضميرك حتى آخره.

***

تجار حروب وأرباب سلطة وفساد واستبداد.. يتقاسمون الوطن لصالح غيرهم مقابل فتات منه.. يمزقون النسيج الاجتماعي للشعب، ويكرسون هذا التمزيق بالدم والموت والكراهية وقطع الطرقات، وتكريس الحدود البينية من خلال النقاط الأمنية والعسكرية، وتعقيد إجراءات التنقل، وفرض قوانين مستحدثة تصب في تكريس هذا التقاسم والتمزيق، وإرغام المواطن على إتباعها والإلتزام بها.

يتشاركون مع غيرهم في نهب ثروة شعبهم، ويعمدون إلى تجويع مواطنيهم، وابتزازهم بلقمة عيشهم، ويتم ذلك بإذلال ومهانة وولاء من عبودية، وما قطع مرتبات الموظفين وعلى رأسهم المعلمين، واستمرار هذا الانقطاع لسنوات طويلة إلا بعض من هذه السياسية الخبيثة التي تهدر كرامة الأنسان وحريته، وتهدم أهم جبهة نضال وهو التعليم؛ ليسود الجهل ويستمر، ليتمكنوا من مصادرة مستقبل شعبهم.

وفي المقابل وبنفس القدر لا يريدون معارض أو اعتراض حتى وإن كان مجهريا، أو خجولا لا يرفع رمشا على عين.. يريدونك أن تكون كما يريدون ويشتهون..! وما تأجل سيتم تحقيقه في كل مرحلة يتم فيها تحقيق مزيد من التمكين.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى