مذكرات

طيران بلا اجنحة .. ثعابين وحلابين “محدث”

برلماني يمني

أحمد سيف حاشد

الثعابين في قرانا لا تزحف فقط، بل أن نوع منها يمتلك قدرة على القفز عدة أمتار.. تمرق أمامك في الهواء حتى تبدو وكأنها طائرة.. بالكاد تلمح مروقها في الهواء بسبب سرعتها الخاطفة.

هذا النوع من الثعابين نسميه في قرانا “مزرقي” بسبب رشاقتها وقدرتها على القفز بزاوية مائلة نحو الانحدار، ولديها قدرة هجومية وعدوانية، وتترك أثراً في نفس من تلدغه أو تعترض سبيله، وربما تسبب له حالة من الرهاب تلازمه.

تعرض أبي للدغة ثعبان في كفّه، وفيما هو يغالب الألم، أول ما فعله وعلى نحو سريع عزل الجزء المصاب من يده برباط وثيق للحد من تسرب المادة السمية من المنطقة المصابة إلى الدم في بقية جسده، وسارع في شق جرح على المنطقة المصابة بنصله جنبيته التي كان يحتزمها، واخرج أكبر كمية من الدم الملوث بالسم من المنطقة المصابة، وثم شرب كمية من الثوم المهروس مع اللبن.. كانت هذه الخطوات الفورية المسعفة المتوفرة لمحاولة إنقاذ حياة من يتعرض للدغة ثعبان.

كما كانت توجد لدى عدد قليل ومحدود جداً من الناس قطعة حجرية سوداء نادرة تسمى “حجر الأقباص” لا ندري أصلها هل هي من الهند أم من الحبشة، يتم طلبها من صاحبها، ووضعها على الجرح المصاب، فتلتصق به، ويقال عنها أنها تساعد على امتصاص المادة السمية من الجسم في المنطقة المصابة.

شاهدتُ أبي الضخم المهاب طريح الفراش بسبب لدغة ثعبان.. شعرتُ بالمفارقة بين بدن أبي العملاق، مفتول الساعد والجسد، وبين أربعة أنياب صغيرة لثعبان صغير، وكيف يأتي هذا بذاك إلى الفراش إن كان محظوظا، وربما يودي به إلى القبر.

هذه المفارقة ذكرتني بشعوب كبيرة وعريقة وعملاقة، وقعتَ وخضعتَ لتسلط “شلل” من خونة الأوطان و”التافهين” و”البلاطجة” والمستأسدين بالسلطة والمدعومين من دول خارجها، وتحتاج استعادة عافيتها إن استطاعت إلى وقت قد يطول.

***

في طفولتي كنتُ أكره الثعابين، وفي المقابل أشفق على ما نسميهم بـ “الحلابين” وأشعر بمظلومية هذه الأخيرة بسبب صفقة التبادل الماكرة، والمعقودة بحيلة، والتي جاءت لصالح الثعابين، كما ورد في حكاية أمّي.

كانت أمّي قد أخبرتني أن “الحلابين” عمياء؛ فأسألها: لماذا هي عمياء؟! فتجيبني: إن الثعبان غلب “الحلبان” في حيلته، ومكر به إلى حد بعيد؛ حيث أخذ “الحلبان” أرجل الثعبان في صفقة تبادل غير عادلة، فيما الثعبان أخذ عيني “الحلبان” وسرعته.

أحسستُ بالحسرة أن تكون “الحلابين” عمياء لا ترى ولا تستفيد من أرجلها الكثيرة، بل صارت مُعاقة الحركة بالأرجل الكثيرة، فضلاً عن لونها الأسود شديد القتامة، فيما الثعابين ناعمة، وآسرة في ألوانها، وزادت تربح من الحلابين نظرها وسرعة حركتها.. إنه المكر الذي أنتصر وأستمر.

بدت لي هذه الصفقة مجحفة بحق “الحلابين” الطيبة، وقد خسرت في تلك الصفقة على نحو فادح، وصارت عمياء ومعاقة في سيرها، بعد عقد وصفقة لم تكن عادلة أو منصفة.

وقد عبرتُ عن تعاطفي مع “الحلابين” في مواضع كثيرة، منها مثلا؛ حالما أجدها في الطريق أنقلها إلى مكان بعيد عنها حتى لا تدوسها الأقدام أو تنال منها الأحذية، وعندما كنتُ أجدها في الجبل بعد المطر، وأرها تشق طريقها بمشقة سير؛ أترك أغنامي، وأنقلها من مكان إلى آخر أراه أفضل لها، وأختصر لها الطريق بحملها إلى ذلك المكان الأطيب، والتي ما كانت تصل إليه دوني. وما أن أنتبه أو أفرغ منها أجد بعض غنمي قد شردت بعيداً عنّي، وتحتاج إلى بذل الجهد للملمة اشتاتها، وإعادة الشارد منها، وتجميعها من جديد.

***

اليوم أجد جزء من مأساة شعوبنا “الحلبانية” وما يجري لها من نكبات ومآسي وأزمات وإفقار وأكثر من ذلك تدجينها وتزييف وعيها وتجميل الباطل والاستسلام للفقر والإفقار، يرجع للاستحواذ على السلطة بالغلبة، أو لتلك الصفقات غير المتكافئة ومفاهيمها، وحيلها وصيغها البعيدة عن العدالة، والمتعمدة تكريس الظلم الواقع على تلك الشعوب.

وتحمل تلك الصيغ عناوين شتى مزيّفة للحقيقة، أو لوي عنقها، وفي هذا الصدد يقول فيودور دوستويفسكي: إن الذين يلوون الحقيقة، لكي تناسب أفكارهم، وعقائدهم، لهم أشد الناس حقارة، ودناءة .”

وتتخلل تلك الحقائق الزائفة مفاهيم خادعة، وما هو ماكر لصالح الحكام على حساب مصالح الشعوب المخدوعة، ومن المفاهيم الخادعة تلك التي تأتي تحت عنوان “الإسلام” ومفهوم “البيعة” ومزعوم “الشورى” وحيلة “فوضناك” وغيرها من المفاهيم التي تؤدي إلى نفس المعنى.

ومفاهيم أخرى حديثة تأتي تحت مزعوم “العقد الاجتماعي”، ولكنها في حقيقتها تكرس سلطة تركز وتمركز الرأسمال المتحكّم ليس فقط في شعوبها، بل وأيضا على كثير من شعوب العالم التي يرتهن لها أنظمتها، وعلى رأسها الأنظمة والدول التي تمارس الدور الوظيفي للرأسمال العالمي.

بات عالم اليوم وقوانينه المعلنة والغير معلنة والمسنودة بالقوة والغلبة والهيمنة، وهي من تحكم العالم، وصارت المنظمات والهيئات الدولية هي المخرجات التنفيذية لسياساتها، فيما باتت الشعوب على السواء ضحية هذا الرأسمال الاستغلالي المهيمن.

شعوبنا المنكوبة تعاني الأمرين، وهي الأكثر اضطهاداً واستغلالاً ومظلومية، ضحية الرأسمال العالمي النهبوي من جهة، والأنظمة القمعية الدكتاتورية في بلدانها من جهة ثانية.

***

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى