مذكرات

طيران بلا اجنحة .. طفولة مسجونة..!

برلماني يمني

أحمد سيف حاشد

أول ما بدأت أعي طفولتي الأولى، وأستعيد استحضارها اليوم بغوص ونبش من قاع ذاكرتي التي تقادم عهدها، أو غرب بعض منها نحو التلاشي والزوال، كنتُ أقرب إلى نزيل سجن منه إلى طفل يعيش حياته على حال أستقر، دون أن يخلو من سعادة وبهجة. فيما طفولتي تلك، كنتُ فيها محبوساً بين غرفة وردهة، مثقلاً بغم وكربة، ومنع لازم خطاي أن لا أتجاوز عتبة بابنا المُوصد، وأن لا أطل بوجه طفولتي من نافذة تم إغلاقها بإحكام.

محبسي غير متاح لي أن أرى ما يجري خارجه من حياة لا تخلو من عجب.. حقي في مشاهدة ما يجري خارج محبسي لا يتأتّى إلاّ بندرة بالغة.. بعض من حال عشته في طفولتي الباكرة، تحت طوق من حصار، وقمع تواصل.. حال أشد وطأة عشته بين جدران ألفتها حتى مللتها، وذكريات تحكي ضيقاً وحرماناً، وبؤس لازمني كظلّي دون فسحة أو فكاك.

ليس لديّ ألعاب أتسلّى بها، لا من عاج ولا من خشب، بل لم يسبق أن عرفت لعبة واحدة مما هو متاح ومستطاع، ومتوفر لدى أقراني في ذلك العهد.. فراغ لا يوجد فيه ما أفعله غير شقاوتي التي أعيشها، وأعتجن بها وفيها، فترتد عليّ شديدة، بزجر وعقاب ألفته، وشقاوة لا تهدأ فيني ولا تستكين.

معرفتي حاسرة، فيما جهلي باذخاً وممتداً في كل الجهات، ينيخ بأثقاله على أنفاسي المتعبة، وحصار بجدران أربعة.. كان يومي يطول ويستطيل، وإحساسي بالتوحد يكبر ويتسع، وملل أناخ بحمله ووطأته على طفولتي التي خاب رجاءها، بعد أن أنتزع الموت منّا نور وسامية، أما “نادية” أختي الثالثة، فهي حديثة عهد وولادة، ولدتَ معلولة لا يسمحوا لي باللعب معها، أو الانفراد بها.

بات فراغي أكبر من محبسي، والقليل من السعادة لم تعد تأتي لتملئ بعض من فراغٍ يتسع، فيما الجدران التي أحاول أن اخربش وجهها، بما يقع في متناول يدي، تطولني بعنادها، وعقاب أمّي تكرر بضرب ألفته، وادرك ما أراد فشل ويأس.

تحاصرني الجدران، وتكشِّر في وجه براءتي أنيابها، وتُطبق بما سئمت على وجه طفولتي، وتلقي على ما هو بض ولين قسوة وجفاف وفقدان.. أحس بضيق صدري حتى يوشك داخلي أن ينفجر، وضغط يشتد على عنقي حتى أكاد به أختنق.

تمضي الأيام والشهور بطيئة كسلحفاة، تجر وراءها سربال من الحزن الثقيل.. أعاني غربة تجتاحني من كل الجهات.. أعيش مرارة عزلتي، وأجهل ما يدور خارج محبسي.. أسمع كل يوم كلام وهمهمات وقهقهات، وتفاصيل لا أعلم ما هي..! لطالما تمنيت أن أكون حاضراً في بعضها، أو يتاح لأحداقي المرهقة أن تلتمع بشغف المعرفة.. اهدهد بعض من شجن يجوس، وفضول يتحفّز داخلي كخيل جموح، وحيرة لطالما جالستني حتى تلبستني وصيرتني بعضها، بعد أن كنتُ أريد تبديدها وكشفها وسبر أغوار غموضها.

أدور وحيداً في مدار فراغي ووحدتي التي يشتد دورانها، حتى أكاد أن أكون صريعها.. جدران تجهمت في وجهي وأربدت، ومُغلق ومُوصد يسد وجهتي، ويصيب عيني بالقذى، وتكبح فرامل موانعي جماح شغفي ورغبتي، فأغرق في غب تعاستي إلى قاع سحيق.

أشعر بوحدة خانقة، وعزلة يشد وثاقها، وجهل يطبق يده على روح تريد أن تطلق أجنحتها في الفضاء.. وجهي مُربد، وعيوني باتت مُرمدة، وجدران تثير كآبتي، وباب مُوصد، ونوافذ مغلقة بإحكام، ممنوع فتحها حتى في صباح العيد.

ثقيل وباذخ كل هذا في وجه طفولتي، وحال صعب احتماله على طفل يتوق إلى معرفة ما يحيط بمعقله.. حصار ثقيل، وجدران تضيق، ويشتد ضيقي.. احس بطوق يشد وثاقه على عنقي، وبه أكاد أن اختنق.

لا أعرف حديقة، ولا فسحة في جمعة أو خميس، أو نزهة في رأس السنة..! لا أخرج من بيتنا إلا فيما ندر، لمرض أشتد وطأته، أو موت بات يدق بابنا، أو لزيارة لا تتكرر في العام الذي يليه.

خروجي محدود ونادر.. خرجنا زيارة لأحد معاريفنا وجيراننا في يوم عيد، أذكر فيها لباسي الجديد، وما ذقتُه من لذيذ.. سكر ملّون حلو ونادر، وشهية شبقة، ولسان تتلمظ ذراته وبقاياه.. اسمه “لانجوس”.. كانت المرّة الأولى والوحيدة التي ذقته فيها، في ذلك العهد الباكر، حلّق بي عاليا وكأن للسحر بساطاً وأجنحة.

أما الزيارة الثانية فكانت أحدث من سابقتها، ولكني لم أعد أتذكر شيئاً منها، غير رواية أمي لها، والتي حكت عن شيء غريب اصاب جلدها، وكاد أن يفتك بها، وعزت إليه ما حدث لأختي “نادية” التي ولدتها لاحقا، وكانت تعاني من تسلّخ جلدها.

***

كان أبي يقضي بحدود العشر ساعات في العمل المضنى والجهيد، من أجل إبقائنا على قيد الحياة، وسد لقمة عيشنا المتواضعة، وكذا خالتي، “أم علي” وأخت أخرى من أبي تعيشان في القرية، وتنتظرا بفارغ الصّبر ما يأتيهما من أبي المثقل بمسؤولية إعاشة الجميع.

كانت الحياة صعبة ومُجهدة، وصراع والديّ في المقام الأول كان ينصبُّ من أجل البقاء، والستر بعيش كديد، وهو أقصى ما يريد ويحلم بتحقيقه أبي، دون مزيد من قليل أو كثير.

كانت أمي تطلب من أبي أن يُغلقَ علينا الباب من الخارج، خوفاً من أن يطالها قول أو شائعة، فهي ابنة “شيخ” كما كانت تصف نفسها وتعتز، وكان أبي لا يرفض طلبها، فيغلق الباب علينا من الخارج حتى يعود من العمل آخر النهار.

كانت أمّي شديدة الحياء.. تأثر حبس نفسها على أن تحصل على حقها في نتفة حرية أو نسمة هواء..! عرفتها شديدة المحافظة وكثيرة الإحساس بالعيب، وتعيش وسواسها القهري في أمور كتلك.. قاسية بحق نفسها وحقي أيضا.. كثيرة المخاوف والتوجس من حياة المدينة، غربتها الجديدة.. كان للحياء كلفة باهظة عليها.. أبي هو وحده من يفتح الباب وهو من يغلقه، فيما أمي كانت تشغل وقتها بالتنظيف، وغسل الملابس، والطبخ والقيام بجميع أعمال البيت.

ولكن لماذا أنا أيضاً يتمُّ حبسي ولا يُسمحُ لي أن أخرج للشارع لألعبَ مع الأطفال، أو أُطِل عليهم من نافذة؟!! أريد أن أرى ماذا يحدث خارج جدران البيت!! أريد أن أرى الوجوه والأطفال والنّاس.. أريد أن أرى الحركة ومعها صخب الحياة وضجيجها.

كلّ ساعاتِ النّهار والليل ـ عدا النوم ـ نظري يرتطم بالجدران وسقف البيت.. لا يوجد شقٌّ في نافذة ولا خُرمُ مفتاحٍ في باب!

أسمع بعض ما يحدثُ خارجَ البيتِ ولكنّي لا أراه.. فضولي مقموعٌ بجدران من أسمنت، وخشب من ساج، ولا مجال أن أرى ماذا يحدث في الشارع من ضوضاء وعراك وقهقهه.. أحترق من شدة الرغبة، فيتم إخمادها بقمع وشدّه.

أريد أن أعرف العالم خارج حيطان بيتنا. أريد أن أرى أبناء الجيران و(شمس) المجنونة على سريرها في حافة الشارع العام، والمحوطة بالصّرر والقراطيس، والعلب الفارغة التي رأيتها ذات مرة عندما خرجت مع أبي مريضاً من أجل العلاج.

أريد أن أرى كلّ التفاصيل خارج حيطان البيت المتواضع الذي نستأجره. ليس أمامي من طريق أن أرى العالم خارج جدران بيتنا.. طريقي إلى الخارج مقطوعاً ومسدوداً بممنوع.

كلّ شيءٍ ضيقٌ في البيت، كصدري الذي ضاق بما فيه، وجُمجُمتي التي لم تعد قادرة على الصبر بما يجول فيها من معاناة وحرمان.. كلما شاغبتُ وطالبتُ بالخروج افزعتني أمِّي وأثارت مخاوفي مما تسميهم “الجبرت”.. لطالما شعرتُ بضيق يخنقني في البيت من الداخل، وممنوع وخوف من رعب خارجه أسمه “الجبرت”.

احس أنّني أقضي أيامي في قُمقمٍ صغيرٍ مغلقٍ بالحديد، يحاصرني ويكتم أنفاسي ويضرب طوقه على عنقي، فيما عالم “الجبرت” في الخارج يثير هلعي ورعبي الشديد.. وجدتُ نفسي بين كماشة أشدّ من بعض.. صرت أتخيل الجبرت على نحو شيطاني مريع.. أشعر على الدوام أن “الجبرتي” يترصدني ويكمن لي في جوار بابنا، ينتظر خروجي من عتبة الباب.

لهذا وذاك كان طبيعيّا أن أكون شقيّاً وأشعر بالضيق، وأن يجد هذا الحرمان والمعاناة انعكاسه في سلوكي الشقي، والمتمرد بين جدران البيت وسقفه وحصاره، وفي المقابل هلع ومخاوف رعب من “الجبرت” الذين يمرون في الشارع أو “الجبرتي” الذي يتحيّن خروجي من الباب.. حصار مطبق في الداخل، وهلع ورعب من الخارج.. حصار قاتل كالذي نعيشه اليوم.

***

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى