مذكرات

السلسلة العاشرة .. أشباح بين الواقع و الوهم .. الحلقات 1-7

مذكراتي .. من تفاصيل حياتي

السلسلة العاشرة

 أشباح بين الواقع و الوهم 

الحلقات 1-7 

أحمد سيف حاشد

(1)

وجه بشع في المرآة

حالما كان عمري بحدود الخمس أو الست سنوات كانت أمي تحذّرني، بل و تقمعني أحيانا للحيلولة دون المكوث طويلا أمام المرآة، ربما هذا القمع هو من دفع طفولتي إلى الفضول، وحب الاستكشاف والاستمتاع بما أجهله، وكأن طفولتي كانت تريد أن تعرف تفاصيل نفسها في المرآة التي ربما تبدو لي عالما قائما بذاته؛ عالم المرآة يثير العجب والأسئلة!! وأنا أريد أن اكتشف عوالمي من خلال هذه المرآة التي صارت في متناول يدي؟!

كيف يبدو وجهي أمام الناس؟!! أريد من المرآة أن تحكي ذلك بوضوح وبأدق التفاصيل.. الآن لا يوجد أحد في حضرتي غير المرآة، وخلوتي التي تحيط بي من كل اتجاه.. يجب اغتنام هذه الفرصة، وأن لا أهدر لحظة منها.. الفضول هو شغف المعرفة، والمنع يمنح المعرفة قيمة ومهابة، واستحثاث لحوح نحو مزيد من الاكتشاف والمعرفة..

اليوم وعمري يشارف الستين أحاول أن أمنطق وجها من طفولتي التي كانت بين الخمس والست سنين أو ما يقارب هذا السن.. وبين هذا العمر وذاك عوالم وأحداث وتفاصيل أشعر أنها من الكثرة لا تتسع لها مجرّة.. وبين الطفولة والكهولة التي أقتربُ منها رويدا، مدى كثيف قطعته كالمسافة من السديم إلى الوجود الكثيف، وإن بديت اليوم في وجه ما متجها نحو الكهولة والتلاشي، فأتمنى أن يكون مسك الختام خبرة وتجربة وحكمة..

كنت أحملق في وجهي بالمرآة.. أريد أن أحفظ تفاصيل وجهي عن ظهر قلب، وعلى نحو أستطيع أن أراه في أي وقت أريد، وفي أي حال وهيئة أكون فيها.. أريد أن أطيل النظر العميق لأرى شيئا لا أستطيع رؤيته إلا في المرآة، وقد تمنيت يومها أن تكون المرآة قد خلقها رب الخلائق عينا ثالثة بمكان ما في أجسادنا، نستطيع من خلالها في أي وقت أن نرى وجوهنا وكل الجسد بيسر وسهولة..

***

عندما وجدت الخلوة والفراغ والوقت الكافي لإشباع رغبتي وفضولي، حدث لي شيئا غريبا لازلتُ أذكره إلى اليوم.. كنتُ في الحجرة العليا بدارنا القديم، والذي صار اليوم عنّي بعيد ومهجور.. كانت الحجرة مسقوفة أكثر من الثلثين، والبقية دون سقف.. تلك الحجرة نسميها “البرادة”، كان مفرج الدار يتكئ في أحدى زواياها في نصفها المكشوف.. وتبدو تلك الحجرة مؤنسه، وتمنح بعض الشعور بالراحة، أكثر من أي مكان آخر في الدار.

أذكر أن تلك المرآة  كانت بمساحة وجهي، أو أكبر من مساحته بقليل.. مستطيلة الشكل في إطار أنيق.. بدت لي الخلوة مع المرآة ستكون ممتعة وسعيدة.. لا أحد معي في الحجرة غيرها.. نحن بقلّتنا كثير.. عوالمي التي تخصّني كثيرة، والمرآة عالم قائم بذاته، وقد قيل فيها الكثير من عهد الأسطورة والخرافة إلى عصر الحداثة وما بعدها، ولازال ما نجهله أكثر مما نعرفه بكثير..

لا أذكر تحديدا أين كانت أمي وخالتي وقاطني الدار.. كانت غفلة أشبه بالغواية.. أغلب الظن أنهم كانوا منشغلين في أماكن أخرى من الدار أو خارجه.. الأكيد أنني استغلّيت غفلة أهلي واستفردت بنفسي مع المرآة.. أريد ضمن ما أريده أن استمتع بخلوتي وبالمرآة التي بحوزتي أكثر وقت ممكن ومتاح..

كنت أشاهد صورتي في المرآة، وأقلّد حركات الوجوه.. أتجهّم، وأتصنع الضحك والبكاء والغضب.. أزُم شفتاي و أمطّها.. أغلظها وأخفي نصفها.. أقطب جبيني و أرخيه، واستعجب!! أخرج لساني إلى الأمام كمستفز محاسد، وأقلّبها في كل اتجاه.. أقطب حواجبي وأعقد شفتاي نحو اليمين ونحو اليسار.. أفغر فاهي وأغلقه.. أجحض العينين وأضيّقها، وأحدج بها في كل اتجاه.. أهرّج مع نفسي أكثر من مهرّج.. أحاول اكتشف تفاصيل وجهي رغبة بالمعرفة لا بالنرجسية.. أغمز وأحملق وأبحلق وأمعن وأركّز النظر.. لو رآني أحدهم أو وقف على ما أفعله لأنفجر ضاحكا،  وأنفجر بالضحك طابق الدار الذي كنت أختلي فيه..

بغته ومن غير مقدمات صدمني ما شاهدته في المرآة.. بدا وجهي قد اختطف واستبدل بوجه آخر.. لم يعد الذي في المرآة وجهي الذي أشاهده.. شاهدت وجه غير وجهي يملأ وجه المرآة .. وجه يشبه وجه “نعمة” التي كانت تسكن في بيت متواضع تحت دار “موجر” وكان يُنسب لها بعض جنون، بل هو وجه شديد القبح لعجوز شمطاء، بتجاعيد عميقة وكثيرة، كخريطة طبوغرافية معقّدة التضاريس وشديدة الانحدارات..

وجه ألقى في نفسي الرعب والزلزلة، وحفر في ذاكرتي تفاصيله إلى اليوم.. لا استطيع نسيانه ما حييت.. وجه مدرّجا بالتجاعيد العميقة والمتزاحمة وعلى نحو أشد وأكثف من مدرجات جبل تتزاحم فيه الانحدارات والأخاديد.. وجه صارم وجهوم ومخيف يصعقك بالصدمة والفزع والرعب من أول وهلة تراه..

كدت أصرخ.. رميت من يدي المرآة بسرعة مذعور.. خرجت مرعوبا من الحجرة إلى السطح المكشوف والمجاور.. خرجت إلى جوار “غرب” الماء المقطرن.. القطران يحمينا ويمنع عنّا الجن والسحر والمس..

كاد قلبي يقفز بهلع من قفصي الصدري.. انتابني هلع شديد، كدت معه أفقد عقلي.. استدعت ذاكرتي إثر المشاهدة تحذيرات أمي التي كانت تنصحني على عدم إطالة مشاهدة صورتي في المرآة..

ولكن من أين جاءت أمي بهذه النصيحة..؟! لعلها سمعت بحدوث أشياء مشابهة لما حدث لي؛ كأنها يوما أخبرتني عن فتاة حدث لها مثل هذا الذي حدث لي ولم أكترث.. كنت محظوظا، فيما الفتاة كما قيل لي أن عقلها طار.. لعل نصيحتها جاءت على هكذا مبنى أو سماع..

عندما كبرت وجدتُ أن مثل هذا التحذير شائع ومعروف لدى كثير من الشعوب ومن زمن بعيد.. لقد كانت بالنسبة لي تجربة صادمة، وأقل ما يمكن أن أقوله عليها إنها “كانت تجربة مفزعة ومخيفة”..

ثمة اساطير وخرافات عديدة حول المرآة منها من يتحدث عن المرأة المرعبة التي تسحب ضحاياها إلى داخل المرآة ليبقوا فيها إلى الأبد.. وأخرى تتحدث عن رؤية الشخص لقرينه، وثالثة تتحدث أن المرآة بوابة تمتد إلى عالم آخر تمرق عبرها كائنات ماورائية مخيفة، وبعضهم يعتقد إن المرايا مسكونة بالأشباح وأرواح الموتى، وبعض يزعم إنها تؤدي إلى عشق وحب الجن للإنس، ومن يقول أنها تؤدي للمس والمرض..

أخبرتني أمي إن ما شاهدته في المرآة هي جنّية، وكدت أجن مما حدث، وكان الجنون أكيد إن أطلت المشاهدة برهة زمن.. وبعد أيام من القطيعة مع المرآة، وبدافع الفضول والتأكد عمّا إذا كنت أستطيع أن أشاهد صورتي في المرآة مرة أخرى أم ستكون القطيعة مع المرآة إلى الأبد..

عدتُ لأشاهد صورتي بحضور أمي، وكنت أختلس النظر إلى المرآة خلسة وبحذر شديد، لأشاهد ملمح صورتي فيها، فوجدتها أنها صورتي بالفعل، وليست صورة العجوز، أطمأنت إنني بخير، وإن الدنيا وأنا لا زالنا بسلام ووئام..

***

البعض يعتقد أن المرآة بإمكانها أن تجيب على بعض الأسئلة.. تكشف مثلا عن مكان الشخص الذي نبحث عنه، أو يكون مصيره مجهول..!!  قرأت في تعليق من شخص درس في الاتحاد السوفيتي أن مثل هذه العادة وجدها في منطقة ريفية في روسيا.. إذا غاب أحدهم ولم يعرف مصيره، يتم الصعود ليلا إلى سطح المنزل، وتضع المرآة أمام الشخص الذي يقوم بالكشف، وفي جانبيه شمعتين أو ضوء خافت.. وبعد أن يتم الكشف يجب أن يربت الشخص الذي في الجوار على هذا الشخص حتى يعود إلى وعيه أو يجن..

وفي تعليق آخر قرأت ليمني أنه حالما كان عمره 12 عاما كانت اخته تبحث عن مصير زوجها الجندي الذي انقطعت أخباره إبان حرب صيف 1994 .. تبحث عن أمل تتمسك به مهما كان واهنا أو واهيا.. طرقت باب أحد الشيوخ أو المشعوذين.. أحضر هذا الأخير مرآه وأعطاها أخوها الطفل والذي تحدث عن هذا بعد سنوات طويلة بقوله:

جعلني الشيخ اركز الى بؤبؤ العين، وطلب مني رؤية مكان زوج اختي.. مر وقت ولم ارَ شيئا في البداية.. كان الشيخ يقول لي ماذا ترى، وكنتُ ارى انعكاس الصورة التي خلفي، يعني اراه هو والضوء.. ثم ركزت أكثر ورأيته في مكان، ووصفت لهم المكان، وبعد خروج زوج اختي الذي كان اسيرا، قال انه كان في نفس المكان الذي وصفته، وللأمانة شفت ناس ولكن بالزي الروماني القديم.. يعني جنود عليهم الخوذة التي كان يرتديها الرومان..

هناك أقاويل أخرى سمعتها في مناسبات مختلفة تتماشى مع تلك المزاعم أو قريبة منها.. ومثالها: عندما تريد أن تبحث عن سارق قام بسرقتك.. يحضروا طفل صغير عمره بين 6 – 12 سنة ويجعلونه ينظر ويمعن في الماء الذي يكون في وعاء صغير، والذي على ما يبدو يقوم مقام المرآة..

ويظل كل هذا مجرد أقاويل ليس لها أساس من علم، طالما لم يتم بحثها، ولم يقل العلم كلمته فيها، وإن كان البعض يحاول أن يجد لها صلة ما بالحديث عن قدرات الوعي الخارقة والغير مكتشفة، أو بالتنويم المغناطيسي، أو نحو ذلك من الأقاويل التي تحتاج إلى سند وبحث ودليل..

***

في محاولة لتفسير أو فهم ما مررتُ به من لحظة صادمة أو تجربة مفزعة؛ قرأت أن “جيوفاني كابوتو” الباحث الايطالي في البصريات من جامعة “أوربينو” في إيطاليا، قام عام 2010 بدراسة، وأجراء تجربة شارك فيها خمسون متطوعا، طُلب منهم تركيز النظر على مرآة موضوعة داخل حجرة ذات اضاءة خافتة لمدة عشر دقائق، وكتب النَّتائج في ورقةٍ بعنوان “وجهٌ غريب في المِرآة”.

كشفت النتيجة أن نسبة كبيرة من المتطوعين شاهدوا حدوث تغيرات وتشوهات في وجوههم بالمرآة، وتلاهم من شاهدوا وجوه أشخاص غرباء أو أقارب متوفين، وتلاهم قلة شاهدوا حيوانات كالقطط والخنازير..

وتنصب أهم النتائج التي وصل إليها البحث أو خلصت إليها الدراسة، أن ما حدث كان بسبب فشل الدماغ في تحليل البيانات التي نقلتها العين؟! تقصير وظيفي في الدماغ بسبب تركيزه على جزئية من الصورة واهماله لبقية الصورة أدى لتلاشي اطراف الوجه أو انبعاجه وتلاشيه؟! خلل عقلي أعطا اشارات غير صحيحة للبصر..

***

هذا العلم ربما لازال في بدايته، ويحتاج لكثير من الأبحاث العلمية.. الاحتمالات والفرضيات كثيرة، ربما تتراوح بين الوهم، والهلوسات البصرية، وتظليل العقل، والاحتيال على الدماغ، أو الخطأ من قبل الدماغ في تحليل ما تنقله الحواس، والإيحاءات، ومخزون الخيال، والعوامل النفسية والوجدانية، والمؤثرات الخارجية، والاختلالات الدماغية والعصبية..

لازالت الأسرار التي يكتنزها الوعي وما يسمى اللاوعي كثيرة منها غير معروفة، أو لم يجزم فيها العلم بعد، بل ولازالت جل قدرات الوعي عصيّة على العلم إلى اليوم.. لازال العلم لم يكشف عن كثير من أسرار الدماغ، وسبر كثير من دهاليزه وأغواره وقدراته..

عدم القدرة على تفسير ما هو غامض يجب أن لا يدفعنا إلى الوقوع فريسة الخرافة، ومحاولات العلم في البحث والكشف أقرب للحقيقة من الاتكاء على العجز والخرافة..

 الذود بالغيب هو عجز معرفي قبل أي شيء آخر، وما يعجز العلم عنه اليوم حتما سيدركه غدا بعد عهد أو ردح من الزمن.. المستقبل عمره مديد لا ينتهي بألف أو ألفين عام.. العلم يبدد الخرافة وينتصر عليها على نحو مستمر.. المستقبل يكسب الرهان، والعلم ينتصر كل يوم.. وأن أخفق العلم مرة يعاود الكرة حتى ينتصر..

***

(2)

“جنّية” تعشق أبي !!

عندما كنت صغيرا ـ لم أعد أتذكر بأي عمر ـ ربما في السادسة أو أقل أو أكثر منها بقليل، كنت أخاف، وأعيش رعب الجن والظلام.. أسمع أمي تتحدث عن جن “الداجنة” القريبة من بيت أهلها القديم، وعن نساء الجن اللاتي ضروعهن معطوفين ومسدولين على ظهرهن.. وعن أخوها الذي حاول بكتاب “شمس المعارف” أن يملك الجن، وكاد يجن وهو يسمع ركض الجن كخيول وأحصنة على سقف وحدته وعزلته في “جلب” بشعب “موجِر”.

كنت أيضا اسمع أبي يتحدث عن الجن، ويروي بعض الحكايات عنهم.. الجنية الجميلة الممشوقة القوام التي توقف السيارات في وقت متأخر من الليل في “عقبة عدن”، ثم تركب مع السائق وهي تتضوع عطرا وسحرا، وفيها كلّما يجذب ويخدع، ليكتشف السائق في نهاية الأمر إنها برجلي حمار.. وأحيانا تختفي فجأة من السيارة، فينصدم السائق بهذا الاختفاء ويجن.. وحكاية النساء اللاتي على البئر يرشين بالدلى لغرف الماء في حلكة الليل، وهو يسمع الرشاء ومعها شهيقهن وزفيرهن، وما أن يقترب حتى يختفين بغته، فيصاب بالهلع الشديد.. هي حكايات كثيرة كنت أسمع بها كل ما لا يقوى على سماعه طفل بعمري الصغير..

كنت أرتعد من الخوف، وتُنفتح أنفاق موحشة في جدار صمتي.. أتخيل عالم الجن، وتنتابني المخاوف أن ينتزعوني من أمي إلى عالم من رعب ومجهول.. كل مفردة في كل حكاية كانت سرعان ما تجد وقعها على وعيي وتحدث فيه أثر بحجم زلزال.. ما يحكوه يرتسم في مخيلتي على نحو سريع ومذهل، وكأنني لاقط بث، أو رادار سريع الالتقاط لرعب مهول..

تلك الحكايات، كانت تسرح بي إلى البعيد.. تنقلني إلى مجهول وغربة عن عالمي الصغير.. كنت وأنا أسمع تلك الحكايات أعيش بذهن طفل، وقلبي الصغير يخفق داخلي حتى أكاد أتصدّع من الداخل.. أشهد أنزياحات عارمة داخلي.. يحتشد في وعيي اللزج كالصمغ ما هو مرعب ومخيف.. ومع ذلك كنت أحاول كتمان ما يُعتمل داخلي، ومواراة ما أشهده من خوف يزلزلني من الداخل وأنا أطويه وأخفيه بصمت كتوم..

كنت أشعر بالوحشة والخوف والهلع وهم يتحدثون عن الجن والشياطين.. كان الظلام يخيفني، وكانت درج دارنا القديم مظلمة، وهي تلتوي على قطب الدار كثعبان أسود عريض، إلا من بصيص نور خافت يتسلل بوهن إلى سلّم الدّرج من كوتين صغيرتين في جدار الدار..

كنت عندما أصعد أو أنزل الدرج منفردا، أركض مسرعا كالريح، دون أن ألتفت إلى الوراء، حتى انجو، والحيلولة دون أن تلحقني يد جني أو جنية أو مس شيطان، كنت أظن إن الجن تختبئ وتتربص بي في الزوايا المعتمة من درج الدار.. عشتُ وأنا في تلك السن الصغيرة معاناة يومية مع الجن والدرج والظلام.. كان صعود الدرج أو نزولها بمفردي إذا لزم الأمر يجعلني أشعر أنني نجوت من الجن حال تجاوزها..

***

وعندما انتقلت إلى دارنا الجديد الذي بني على مراحل، وكان يومها دكانا فوقه ديوان، لازال بابه مكشوفا، أو من دون باب، غير حزمة من الزرب تُنحَى مع الفجر، وتعاد إليه قبل النوم أو بعد دخول الليل بقليل، وفي مدخله كان يوجد مطبخاً صغيراً في الزاوية..

كنّا يومها ننام في الديوان ونترك الفانوس يضيء على نحو خافت أثناء النوم.. صحيت أنا وأبي مذعورين من الفراش على صوت أمي، وهي تهرع علينا تستنجد وتستغيث وتقول بإرباك وعجل على عجل: “خربي خربي خربي.. البندق البندق”..

لقد رأت أمي يدا ترمينا بالحصاء، من جانب قطب الدرج جوار مطبخنا الصغير.. كانت أمي قد لمحت وجه متخفي باللثام كالشبح، ولكنه ليس بشبح.. قاربت في تخمينها الواقع، ولكنها لم تصيبه.. جاءت إلينا مذعورة وعقلها كاد يطير فزعا ورعبا..

قفز أبي من تحت لحافه كعفريت على وقع صوت أمي الهلوع.. لا أدري كيف أستطاع يجمع أشتات عقله في لحظة مربكة كتلك.. أما أنا فكنت مذهولا ومملوءا بالهلع وكأن نازلة جاءت علينا من السماء.. لم أستوعب ما حدث إلا بعد أن هدأ روع الجميع..

هرع أبي ببندقيته النصف آلية بالاتجاه الذي كانت تومي إليه أمي بكلتي يديها، أما كلام أمي فلم أعد أفهمه لما شابه من ارتباك كبير.. الغريب أن الشبح كان الوحيد الأكثر تماسكا ورباطة جأش ومراس..

وضع أبي فوهة البندقية في خاصرة ما بدا لي أنه شبح بثياب رجل ملتثم، فيما الشبح بصوت أنثى كان يتدفق حنين وأنوثة.. كان يحاول أن يهدئ من روعنا وإفهامنا أنه “فلانة” وتعريفنا بما تطمئن له قلوبنا..

اكتشفنا أنها إمرة تنضح أنوثة.. رشيقة وجميلة جدا ومغامرة.. تلبس في دجى الليل لبس الرجال.. ومع ذلك وإلى اليوم تستطيع ذاكرتي أن تستعيد وتستحضر صوتها الذي كان يتدفق عشقا وشوقا ولهفة.. طولها فارع ومخاتلتها مثل نسمة بحر، وفي صدرها حب وهمس وكلام كثير..

بعدها أمي أقامت الدنيا على أبي.. ربما أول مرة شهدتُ أبي ضعيفا أمام أمي متضرعا ومستجديا لها.. أقامت أمي لأبي محكمة بدأت صارمة، فيما أبي كان يدافع عن نفسه بصبر وتوسل وأيمانا غلاظ ليداري ما يمكن أن يتحول ليلتها إلى فضيحة مجلجلة..

كان أبي يدافع عن نفسه أنه برئ من التهمة، وإلا لكان هناك ميعاد يداري به ما يرغب ويريد بعيدا عن أعين أمي.. كان يعرف أن ما حدث يمكن أن يتحول إلى فضيحة بين الناس، ولذلك حشد الحجج والقرائن والأيمان المغلّظة لتبديد تهمة كادت أن تتحول إلى تلبس وجرم مشهود.. وفي المحاكمة سمعت أبي يتهم فلان من الناس أنه من دفعها لتفعل ما فعلته، وتطلب منه بجُرأة مما أعطها في الأمس.. تقولها دون حياء وتطالب به وكأنه بعض من حقها.. كانت تلك المرأة آسرة الجمال، كان أبي أيضا جميل وأجمل من صاحبه..

نال أبي ليلتها نصف براءة أو أكثر منها بقليل، فيما ظل الباقي غيرة وشك حيال أبي طال مداه.. الأهم أن أمي ليلتها لملمت الموضوع مع أبي إثر محاكمة مستعجلة حالت نتيجتها دون ترك أمي دارها والهرب إلى بيت أهلها، وقد كان هذا في بداية الانكشاف وارد ووشيك..

ولكن أستمر تعلق العاشقة بأبي وعرض الزواج عليه، ومحاولة استرضى أمي لمثل هذا الزواج والتعايش معه، ولكن لم تظفر بموافقة والدي، وبعد يأس ورفض أنشدت:

“صافي البدن يا عطر بالزجاجة  *** شهويك هوى ما أشتى ولا زواجه

***

وبقي العجب.. يا لها من عاشقة شجاعة، وليل مسكون بالعشق المؤجج لواعجه.. رحلة عشق من هُلام وانفجار إلى انبثاق وجود يتحدّى العدم.. كيف بمقدورنا أن نحتمل هذا الامتحان العسير والجمال باذخ يتحدّى موانعه.. أقام العشق وحل في أعماقنا حتى صارت أقداره أكبر من هذا الوجود ولّاد الخلائق..

جمال يعبُر حدود الموت للقاء بمن نحب ونعشقه.. غواية تستحق عبورنا، وخطيئة كالمعرفة تستحق التضحية.. نحن ضحايا وجودنا.. لا أجحد نعمته ولكني ألتمس للعاشقين حد الموت أعذارهم.. ما أصعب أن نرى من شرفة الكون هذا الجمال البهيج ولا نعشقه.. كيف لفراشة أن ترى كل هذا الضوء دون أن تطير إليه وتنتحر..

لطالما تمنيت أن تكون “الأشباح” كهذه الجميلة العاشقة.. يا ليتها تتربص لنا في كل ليل وعتمة.. تمنيت أن تزداد شوقا ولهفة، وتزورنا كل ليلة إلى مراقدنا بهيام ودهشة.. ومن دون أبواب أو مواعيد.. وأكثر منه تمنيت أن تسكن دورنا طوال ليالينا المعتمات، ونحن نقيم في أفئدتها طوال ساعات النهار..

هذا العشق اللاعج والجمال الباذخ رونقه، يزيد الوجود ابتهالا لرب هذه المعجزة.. نقولها بصوت محتج مختنق مهما أدعيتم ورميتم “الأشباح” بكل الجرائر والتهم، فهي في أسوأ حالها إن أفترضنا صحيحها، أفضل ألف مرة مما يفعله بنا بعض أبناء البشر..

عشق وشوق تحدّى الموت وما حاق وحف بالخطر.. مغامرة تنكرت في ليل مدلهم حلكته.. عبور مختنق للوصول إلى من نحب.. العشق المُخاطر بصاحبه.. عشق تحدّى لعلعة الفضيحة، والقتل رميا بالرصاص، وعقوبة الموت رميا بالحجارة.. طابت روح المسيح الذي قال: “من كان منكم بلا خطيئة.. فليرمها بحجر.”

سلام لأشباح تمارس وجودها ممالك عشقها من أول الليل إلى آخره.. سلام لها وهي تتسلل كالنسائم إلى تحت المعاطف والألحفة.. سلام عبق بعشق وزهر وعطر.. والتنكر سلام للعبور في حقول ألغام العيون.. واللقاء بلا مواعيد أكثر مفاجأة ودهشة..

أهلا بأشباح العشق أول الليل أو في لجته.. تحت سترته أو في معطفه.. في صلاة الليل أو تهجده.. أنا لا أجحد نعمة الله، ولكني فقط أكره الحرب، وأقارن بين الجرائر.. الحرب جريمة كونية تقتل كل النعم.. تسفك الدم، وتقتل الحياة، وتصلب الحب، وتسيء إلى هذا االوجود العظيم..

في هذه الأيام التي تأكل نفسها وتقتاتنا معها، صرنا نبحث عن العشق فلا نجده حتّى في أحلامنا وليالينا الداجيات.. أيامنا صارت تكتظ بالحروب والمقابر.. أنهار من الدم، والدموع الهواتن، وجوع ومجاعة بلغت بقلوبنا الحناجر.. نحن نذود عن الوجود، ونراكمه حياة وحب وعمران، ونقاوم جوعنا وفناءنا وهذا الموت الجائحة..

نحن لا نجحد نعمة، ولكننا نحتج وندعو ونبتهل..نستغيث بحشرجة الموت وغصته، طالبين نجاة أولادنا من جهل عرمرم، واجتياح موت عريض يُهدد وجودهم والنسل والضرع.. المجاعة كارثة تجتاحنا كل يوم بتكرار وقسوة، وحصار مميت من كل حدب وصوب يطبق يداه بقوة الحديد والموت على حناجرنا المتعبة، حتى لا يسمع العالم أنيننا وجوعنا ومآسينا العراض..

ونحن بصوت الصبر المراكم في وجه هذا العبث، وهذه الحرب الضروس، نطلقها بصوت يفتت الصخر: أوقفوا الحرب.. دعونا نعيش.. دعونا نحب ونعشق؛ فجريرة العشق مهما أوغلت في عشقها تظل دون الحرب بمليون ومليون ضعف.. المجرمون من يستسهلون القتل، ويسفكون الدم، ويستبيحون الحقوق، ويسوقون الموت تجارة لا تبور، وليس من أحترق في مجمرة الحب والعشق اللذيذ..

“أوقفوا الحرب” صرخة نطلقها من أعماقنا ونحن نحمل نعوشنا على كواهلنا المتعبة.. نستغيث من وسط زحام الموت، وهذه الحرب الكارثة التي لا تريد أن تنتهي.. عالم متصحر وصخري الضمير، ولكن لعل رهاننا على بقايا ضمير ندي يفعل شيئا في وجه الموت العريض وهذه الحرب، والدمار والخراب الكبير..

لم أكفر والجوع كافر، ولم أجحد نعمة في ليل أو نهار، والحرب تهرس المفاصل والعظام.. ولكني أحتج بمرارة من يحمل نعشه وتطلع روحه، على من يرى القذى في عين أخيه ولا يرى الخشب في عينه.. من يرى العشق جريمة بحجم السماء، ويرى الحرب جهاد وغفران وعزّة وسؤدد..

***

 (3)

دفاعا عن الجن

كنت أسمع عن خالي صالح الذي فاق طموحه اللامعقول، وحاول اقتحام عالم الجن لا ليكون واحد منهم، بل ليستعبدهم ويتوج نفسه ملكا عليهم، ويجعلهم له طائعين ومخلصين.. أراد أن لا تعصى أوامره ولا تُرد بحال.. أراد أن يسمع منهم: “شبيك لبيك نحن بين يديك”.. أوامره مطاعة من أول وهلة، ومستجابه من اللحظة الأولى، وتنفذ دون تلكؤ أو تردد، ومن غير نقاش أو سؤال.. أراد أن تكون لكل إيماءة تصدر منه ألف حساب.. باختصار أراد أن يكون “سوبرمان” ولكن على نمط ذلك العهد الموجود في المخيال الشعبي..

كان خالي هذا لا يريد أن يكون وزيرا في مملكتهم إن كان لهم ممالك، بل يريد أن يكون هو ذات الملك.. أراد امتلاك جميع الجن ليكونوا له عبيدا طائعين.. أراد أن يعيش ملكا في عالم خرافي لا يخترقه ولا يجرؤ بالتفكير به إلا من يملك شجاعة فذة، ورباطة جأش نادرة.. ربما بدا له المستقبل، عالم خرافي يستحق المغامرة.. لا بأس في أمر على هذه الدرجة من الأهمية أن يغامر ويجازف، فأما أن يكون ملكا في عالم الجن، أو مجنونا في عالم البشر..

ومن “جلب موجر” في الجبل، أراد الانطلاق إلى عالم الجن بكتاب “شمس المعارف”، ليعترش مملكتهم بكتاب.. أراد المغامرة التي تبدأ باستحضار الجن الذي يتبدون في البداية برؤية حشرات وثعابين وحيوانات، ثم تنتهي بثعبان ضخم يبتلع بعضك أو معظمك.. يستعير الجن هنا الكثير من الأشكال والصور قبل أن تمتلكهم، وتلج عالمهم الخرافي..

يجب عليك أن تستمر بقراءة الكتاب مهما كانت الخطوب، ومهما أشتد الرعب عليك.. يجب أن تمضي للنهاية لنيل ما تريد.. إنها تجربه ربما بدت أفضل من الانتظار إلى ليلة القدر التي ندرتها في احتمالية المرور عليك، أقل من يوم في ألف شهر..

عليك أن تتسمّر في مكانك واعتكافك دون أن تحيد عنه، لا تلتفت إلى ما حولك، ولا تبالي بغير قراءة الكتاب حتى منتهاه، ليتوجك الجن ملكا عليهم.. يجب أن تندمج في القراءة وتنغمس فيها حتى شحمة إذنيك وشعر رأسك.. يجب أن تمضي في شجاعتك إلى النهاية دون اكتراث بأي مخاوف أو رعب يحيط بك.. حضور الجن سيبدأ في صورة حشرات وثعابين وحيوانات، ومن البسيط إلى الصعب والمعقّد، ومن السهل إلى ما هو مرعب ومهول.. أراد خالي أن يقتحم التحدي المستحيل للوصول إلى المُلك في عالم الجن والمجهول..

كاد يجن وهو يقرأ الكتاب في خلوة موحشة، لتحقيق حلما عصيا على التحقيق، يحتاج منه إلى شجاعة مفرطة ورباطة جأش خارقة.. كانت أمي تروي التفاصيل المخيفة، والتي انتهت تجربته بسماع حوافر الخيل على السقف الذي كاد يسقط عليه، أو هكذا بدأ له الأمر، أو جاءت الأخبار عنه.. فرمى بالكتاب فزعا، وغادرة خلوته والمكان راكضا مرعوبا ومذعورا، بعد أن فاق حمله تحمُّله وقدرته..

أراد أن يختصر طموحه نحو المملكة، فكانت مملكة الجن عليه ـ على افتراض وجودها ـ عصية ومرعبة.. في تجربة كهذه تطال نتائج الفشل صاحبها، وإن تعدته نتائجها، ربما لا تتعدى أسرته وذويه إن ولج في الجنون.. فيما مملكة البشر وفي بلاد مثل اليمن تعتبر أكثر رعبا وتوحشا، ويحتاج الأمر فيها إلى استباحة الموت للحياة، وازهاق الأنفس، وسفك برك من الدم، وخراب كبير، لا يمكن تحمل ضخامته، ولا يخلوا الأمر من غدر ومكر وخساسة ومؤامرات..

لا يصل المرء في بلاد مثل اليمن إلى سدة الحكم، وهو الغالب والأعم، إلا عن طريق الدم والمؤامرات، وربما يمر أيضا من بوابة المخابرات الدولية.. وأن أراد الاستمرار بالحكم، عليه أن يستمر بالرقص على رؤوس الثعابين، كما جاء في تاريخنا الحميري..

يجب البحث عن البديل، وهو الانحياز للناس الطيبين، وتبنّي قضاياهم، والتفاني من أجلهم، ولابأس من اجتراح بوابة الخلود المؤجل بعد الرحيل، حتّى وإن هالوا عليك التراب.. كن جنرالا مع الناس لا ضدهم، وهذا هو الأهم..

***

لا مقارنة بين الشر الذي يصنعه أبناء البشر، والشرور التي يأتي بها الجن أو حتى تلك المنسوبة إليهم.. هل سمعتم يوما أن الجن صنعوا قنبلة نووية واستخدموها ضد أبناء جنسهم،  أو حتى علينا نحن البشر؟! حاشا لله أن يحدث مثل هذا أو حتى يخطر على بالهم !

هل تنامى إلى مسامعكم أن الجن شنوا حروبا ضروسة أستمرت سنوات طوال على بعضهم، أو نشروا الخراب والدمار والموت بحق بعضهم كما نفعل نحن البشر ببعضنا؟! بل إن أهل الجور منهم، الذين توعدهم الله بالعقاب الشديد، وقال فيهم القرآن ” وأَمَّا القَاسِطُونَ فكَانُوا لجَهَنَّمَ حطَبًا”. لم نسمع عنهم أنهم فعلوا شيئا من هذا القبيل، بل حتّى إبليس بكل ما ينسب إليه من شرور بحق وباطل لم يفعل هذه ولا تلك.

وإذا كانت آية أو سورة واحدة من القرآن وهذا قولهم تكفي لرد الجن وشرورهم على أعقابها، بل وتتكفل بإحراقهم، فإن القرآن كله، بل وما جاء به الرسل والأنبياء أجمعين لم يمنع البشر من ارتكاب الفظائع والمجازر والحماقات بحق بعضهم، وبحق شعوبهم وبحق الإنسانية قاطبة، بدافع من طمع وسلطان وطغيان..

وأكثر من هذا نجد كثير من الجماعات والفرق والحوامل السياسية والدينية تبيد بعضها وتلاحق خصومها إلى أقصى الأرض، وتأخذ من “حمّال الأوجه” ما يشرعن ويبرر فظائعها وبشاعاتها بحق شعوبها وغيرها من الشعوب الأخرى، بل وحق الإنسانية كلها..

الجن لا تشعل الحروب، ولا تتاجر بها، ولا تحاصر بعضها، ولا تنتهج سياسة الإفقار والجوع والمجاعة على أبناء جنسها.. الجن لا تسفك الدم، ولا تمارس الجبايات الظالمة، ولا تستبد، ولا تستغل الكوارث والحروب، ولا تبرر فظائعها بقرآن كما نفعل..

ليس لدى الجن سوق سوداء، ولا أطماع مشبّعة بالدم، ولا وزر الأحزان الثقال.. ليس لديهم استغلال فاحش ولا “مصائب قوم عند قوم فوائد”.. الجن لا تتاجر بالدم ومآسي الشعوب، ولا بمشتقات النفط وأوجاع الفقراء والمستضعفين، ولا تمارس سياسة الإفقار الممنهج، ولا تمعن في جشع يهرس العظم، ولا تبني مُلكها على جماجم البشر..

الجن لا تقطع الرواتب، ولا تثري من أوجاع الرجال، ولا ترغم الناس على العمل دون مقابل.. الجن لا تستبيح حقوق الغير بالطول والعرض، ولا تستولى على خدمة السنين الطوال، ولا تقطع سبل العيش الكريم، ولا تستغل الحاجة والعوز والجوع الأشد للحشد إلى المحارق، وتحويل الناس إلى محاطب حرب عبثة طمعا وجشعا، أو دفاعا عن سلطة أو مصالح أو ولاية..

الجن لا تنهب الأوطان، ولا تعيش على دم وعرق الشعوب.. حتى إبليس ربما يندي جبينه وتحمر وجنتيه خجلا، بل ويتوارى في حيائه، حالما يرى ما يفعله أبناء البشر ببعضهم من ترويع وتجويع ومجاعة وإبادة..

الجن أكثر تأدبا مع الله ومنهم القائل: “إنَّا سَمعْنَا قُرآنًا عجَبًا يَهدِي إلَى الرُّشدِ فآمَنَّا بهِ ولَنْ نُشرِكَ برَبِّنَا أحَدًا” كما إن الجن لا تمارس التمزيق والعنصرية المتعفنة ضد بعضها، وليس لها صلة بالفساد المهول، ولا تسحق أصحاب الحقوق، ولا تضلل العدالة لتقهر الشعوب، ولا تدمّر العمران والحضارات ولا تنشر الخرائب كما نفعل نحن البشر..

الجن مصفّدة في رمضان، ويمكن صدّها بقية الشهور بالقرآن والتعاويذ والملح والطلاسم والقطران، بل وألف وسيلة غيرها، فيما البشر يمارسون طغيانهم وشرورهم كل يوم، وعلى مدار العام، وأكثر منه أن الجن لا يغامرون ولا يقامرون بمصير الشعوب والأوطان كما يفعل بعضنا من عشاق السلطة والسلطان..

الجن أكثر أصالة وعمرا من البشر، وإن كان بعضنا يلقي اللوم عليهم بأنهم لم يعمروا الأرض، فإن لهم الحجة الأقوى، وهو إنهم لم يخربوها ولم يلوثوها يوما، ولم يدمروها كما نفعل نحن البشر، فالخراب والدمار لصيق بنا وهو أبشع من أن تظل الأمور تجري على حالها..

(4)

قرآن وخذلان

عندما صار دارنا الجديد ثلاث طباق، كنت أنام في الديوان مع أمي وأبي وأخوتي الصغار، وفي ليل شاتِ وداجي استيقظت من النوم.. كان الليل حالكا والسواد شديدا، فيما السكون المحيط يُسمعك أنفاس من في الجوار، بل ويكاد يُسمعك دبيب النمل، وأنفاسه أيضا..

بعد وقت قصير، صرت اسمع حركة بقرتنا في أسفل الدار، والدجاج في قنوهن الصغير خارجه.. بدأت أسمع وقع خطوات ثقيلة على سقفنا الذي ننام تحته.. فتح الأبواب وغلقها.. صارت لديّ حدة في السمع، أو بالأحرى حدة في وقع الوهم على السمع.. هلوسة سمعية مشوبة برعب وخوف.. ظللت ما أسمعه يشتد ويزداد.. ما كان وقعه خافتا في البداية صار أكثر وضوحا على مسامعي، ومعه بالموازاة يتضاعف خوفي ورعبي كلما أزداد ذلك الاشتداد الذي أسمعه..

بدأت أسمع كلام وأصوات تزداد وتتضح مع مرور الوقت، وذلك كلما استمريت في الترقب والإمعان في السماع.. أمي وأبي يغطون في النوم.. استغربت أنهم لا يسمعوا ما أسمعه، بعد أن صار أكثر وقعا ووضوحا وسماعا..

قرأت مع نفسي سورة الفاتحة التي أتعبني حفظها، ولم أحسن قراءتها.. وبقراءتي لها لم يتغير الحال.. ظننت أن عدم فاعلية سورة الفاتحة راجعا إلى كثرة أخطائي في قراءتها..

قرأت سور الناس والفلق والإخلاص، وهو كل ما بقي في جعبتي من حيلة ووسيلة، وفيها ما كنت أحفظه من القرآن لأحمي فيه نفسي الخائفة، وأطرد ما قد يعتريني من توهم أو وسوسة.. أريد بالقرآن أن أحرق الجن كما كان المعتقد يسود في ذهني، وهو ما سبق أن سمعته من أمي وأبي ذات يوم، ولكن دون جدوى أو فائدة.. لا صد ولا مانع عمّا أسمعه.. ظل أملي بمنقذ يتلاشى بمرور الوقت الذي كان يمر ثقيلا كسلحفة..

الأصوات تزداد وضوحا.. همهمة تتسع.. بكاء طفل.. صوت امرأة تصرخ في وجه بقرتنا الحلوبة.. صرير الأبواب فتحا وإغلاقا.. صرت كأنني في عالم آخر غير ذلك الذي كان قبل قليل مملوء بالسكينة والسكون..

بدا لا مجال أمامي لأنقذ نفسي مما أنا فيه غير أن أصرخ بكل صوتي، فصرخت مرعوبا ومذعورا، وشق صوتي الليل والمكان.. قفز أبي وأمي من نومهما العميق حتى كاد عقليهما يطير، وما أن شاهدتُ “كشاف” أبي المنتفض يضيء بيده، شعرت بالنجاة وعودة النفَس، فيما كانت أمي تضمّني وتحتضنني بخوف وقلب هلوع..

أمي توغل في تعويذاتها من الشيطان الرجيم، وتسألني بقلق عمّا حدث، كانت تعتقد أن حلم مفزع أو كابوس ما قد داهم نومي، فيما أنا اجيبها بتقطع وتوتر عمّا سمعت، أما أبي فقد باشر بقراءة سورة الجن لحرق الجن الذي عجزتُ أنا عن إحراقهم..

كنت أرتجف رعبا وهلعا كأرنب صغير في وجه سكين.. أحاول أن أستعيد حالتي الطبيعية تدريجيا.. أحاول أن أخرج من روعي وأنا أسمع أبي يقرأ سورة الجن.. كنت أريد أن أسمع صراخ الجن وهم يتلاشون في حريق أشعلت أواره سورة الجن، ولكني لم أسمع شيئا مما كنت أعتقد!!

قامت أمي وأخرجت من صندوقها الحديدي حرز “السبعة العهود” وألبستي إياه.. نلبسه حرزا في الشأن الجلل والعظيم.. شعرت بالسكينة والاطمئنان، ولم ينام أبي وأمي ليلتها إلا بعد أن ولجت في النعاس ثانية بعد وقت أنقضى، ثم رحتُ أغط في نوم عميق..

وعندما صرتُ “أستاذا” قال لي أحدهم تعليقا على تلك القصة التي فرغتُ من سردها:

– لم يخذلك القرآن يا أستاذ أحمد، بل أنت من خذلت نفسك، واعلم إن القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين، أما حرز السبعة العهود فهو شرك وشعوذة، أسأل الله أن يردك إليه ردا جميلا..

فأجبت: ونعم بالله.. الحرز أيضا مترعا بذكر ربي، وآيات من الذكر الحكيم، ولن أعيد ما جاء في المثل الشعبي الموثّق عند كبارهم: “اقرأ ياسين وبيدك حجر”، ولكن أقول الذي خذلني هو مسيرة انتحلت أسم القرآن، مرّت جنازيرها الغليظة على جسدي المنهك وروحي النازفة، عندما خرجنا في 25 مايو 2017 نطالب برواتب أكثر من مليون ونصف المليون موظف ومتقاعد، تقطّعت بهم السبل، وقُطعت عنهم مصادر العيش الكريم..

***

(5)

شبح يعترض طريقي

في نهاية سنة أولى على الأرجح من مرحلة الثانوية، سافرت من عدن عائدا إلى القرية عن طريق منطقة “شعب” التي كنّا نرخي فيها الرحال لبعض الوقت تارة عند سعيد وأخرى عند أديب، وقبلها عند الحاج محمود لنستريح حتى يأتي الغلس، ثم ننتقل منها إلى قريتنا البعيدة عبر طرق تحتال على نقاط أمن الشمال..

كانت هناك مزاعم قديمة في ذهني من أيام الطفولة الأولى تحكي أن المنطقة الخالية من السكان في “موجران” تحت الدار الأبيض من جهة الشرق، مسكونة بالأشباح والعفاريت، وقد كان لي في هذا المكان حكاية..

كان الغلس قد دخل أوجه، وكنت حينها أحمل بيدي مسدسا نوع “تاتا” روسي الصنع، معمرا وجاهزا لإطلاق النار، والتعامل مع أي مفاجأة أو طارئ قد يعترض طريقي في ذلك المكان أو في غيره من أمكنة الطريق.. كان المسدس يعطيني شعورا بقدر من الأمان والثقة الكبيرة بالنفس حتى مع الأشباح التي بات اعتقادي بوجودها يتضاءل، أو صارت معتقداتي بها أقل حدة بكثير من تلك التي كانت تعيش في ذهني أيام طفولتي الأولى..

فجأة وفي المكان الخالي والتي تكثر فيه مزاعم الأشباح والعفاريت، شاهدت شيئا أسودا.. مميزا يشبه الشبح ظل يكبر.. شبح أكثر سوادا مما حوله.. بدأ لي جسما ضخما يقارب حجم الفيل.. يتوسط الطريق وكأنه جاهز لاعتراض طريقي، بل أحسست أني وطريقي بتنا مُستهدفين منه..

 أردت أن أنحو نحو اليمين بعيدا عن هذا الذي أشاهده وسط الطريق ملتبسا في الظلام، متجنبا الصدام معه على افتراض وجوده.. تنحيتُ يمينا في محاذاة الجبل، ولكني شاهدته ينحو معي نحو اليمين، عدت المحاولة على نحو معاكس، في الاتجاه الآخر نحو اليسار، فوجدته أيضا ينحو معي في المقابل نحو اليسار.. إنه يعترض طريقي أينما ملت..

توجست أكثر وقلت لنفسي: يبدو هذا الشبح الضخم لا يريد لي المرور من ذلك المكان، ولكن لا طريق سواه.. لا معبر الآن غيره ممكن ومتاح.. التقهقر والعودة إلى الوراء من حيث أتيت عار وعيب إلى آخر العمر وبعده.. ماذا أقول لمن أعود إليهم؟! هل أقول عفريتا أعترض طريقي؟! هل أقول لهم شبح ردّني من وسط الطريق؟! هل أقول لهم إنني رعديد، أو صرت خائفا وجبانا؟! ثم حتى إن عدتُ لأبحث عن مسلك آخر بعيد، أظل أمام نفسي جبانا ورعديد.. وأجيب على نفسي بحزم وتحدّي: لن أعود مهما بلغت كلفة المرور..

ثم أن خزنة المسدس محشوة بالرصاص، ورصاصة واحدة قادرة أن تقتل فيل أو على الأقل أن تعوقه.. فما البال والمسدس في خزنته ثمان طلقات، والتاسعة في بطن المسدس، جاهزات للانطلاق، تنتظر ضغطة بسيطة على الزناد، ومتابعة الاطلاق..

يجب أن أتقدم إلى الأمام ويكون ما يكون.. لا خيار لي إلا التقدم في مواجهة هذا الشبح المريب في مقصده.. أخذت أتقدم نحوه مع وضع من الانحناء والجاهزية لإطلاق الرصاص.. أتقدم رويدا رويدا.. خطواتي صارت أكثر مخاتلة مع تقدم حذر إلى الأمام نحو ذلك “الشبح” الذي كان قد تبدّى لي ضخما ومرعبا..

سبابتي معقوفة بجاهزية تامة على الزناد.. بدت لي مشحونة بإرادة الضغط في حالة اصطدامي بأي هول أو مفاجأة.. أرسل وعيي إشاراته إلى أعصابي كلها، بما فيها يدي وسبابتي الجاهزة للضغط على “المقص”..

برمجتي العصبية باتت تسري في كل أوصالي، وبثقة إنها لن تخذلني مهما كان هول المفاجأة.. صرت جاهزا واوثقا من مسدسي وبرمجتي العصبية التي تسكن مربض سهامها في أصبعي المعقوفة على الزناد، والجاهزة لإطلاق النار على الفور.

تقدمت إلى الأمام في وضعية منحنية ومتسللا نحو ذلك الشيء الملتبس لاكتشف ماهيته.. أصبعي على الزناد تتحين لحظة الضغط، والمسدس المسدد إلى الشبح في وضعية الجاهزية الكاملة لإطلاق الرصاص في أي لحظة..

تقدمت أكثر وأكثر.. اقتربت ودنيت من الشبح، وعندما صرت قريبا منه، وعلى شفق خفيف تفاجأت على نحو غير ما توقعت.. اكتشفت إنها نخلة متوسطة الحجم، وريح خفيفة تحرك سعفها، وبالتباسها بالظلام وبقايا الوهم القديم الذي سمعته عن المكان بدت لي كشبح يميل يمينا ويسارا حتى توهمت أنه قاصدا اعتراض طريقي ومنعي من المرور، أو تحمل النتائج في حال اصراري على هذا المرور..

أنكشف كل شيء وتبدد كل وهم، وأولهما وهمي ومخاوفي.. تنفست الصعداء وأنا أضحك من نفسي على نفسي.. ونصحت من حكيت لهم قصتي أن يتغلبوا على خوفهم ووهمهم، ويتغلبوا على الأشباح التي تعترض طريقهم حيث وبمقدورهم أن يهزمون كل الأشباح حتى بدون مسدس أو سلاح.. بإمكاننا الاطاحة بكل سلطة مستبدة مهما بدت قوية إذا ما تغلّبنا أولا على أوهامنا وسحقنا مخاوفنا وعقدنا العزم على إسقاطها..

***

 

(6)

شبح الأبيض ومكر 

كانت النقاط الأمنية التي تم نشرها على الأرجح في مستهل الثمانينات من القرن المنصرم في مناطقنا النائية، ترغمنا على تجاوزها من خلال الالتفاف عليها، وسلك طرق غير سالكة، وعبور أكثر من منحدر، وتسلق الوعر منها؛ لتجنب الاحتكاك بتلك النقاط أو الاصطدام بها..

في إحدى المرات سلكت طريق التفافي في جبل محاذي لـ “سوق الخميس” وكانت الساعة بحدود الواحدة بعد منتصف الليل.. القمر يتوارى خلف الجبال العالية، وضوؤه الشاحب يتلاشى نحو الزوال، والظلمة تقتفي أثره وتزحف باتساع.. شاهدت كتلة بيضاء تتحرك.. انزويت في مكان لأرقب الأمر بحذر..

أقترب الشبح الأبيض منّي أكثر دون أن يشعر بوجودي.. كان يلبس قميصا أبيضا، ومعمّما، وحازما عمامته وصدغيه بقطعة قماش أبيض.. ربما بدا لي في هيئة أشبه بولي من أولياء الله، أو رجل من عباده الصالحين المصطفين الذين يظهرون نادرا على بعض أبناء البشر، ويجلبون لهم الحظ والسعادة، أو يبعثون في نفوسهم من الفأل والأمل احسنه..

داهمتني الأسئلة والاحتمالات: ربما يكون الخضر!! ولكن لماذا الخضر عليه السلام يترك الطريق السالكة، ويجلب لنفسه العناء والمشقّة، ويتسلق الوعورة والجدران؟!! أنا أفعل ما أفعله، وأعبر طريق غير سالكة، لأنني أتحاشى الاصطدام بنقطة الحراسة، ولكن لماذا هو يفعل هذا طالما أنه ولي الله أو نبيه؟!!

نسمة عطر فواحة تسللت نحوي وهي تسبق صاحبها الذي بدى ملهوفا.. أحسست بانتعاش روحي التي أنهكها السفر والاحتيال على نقاط الحراسة والتفتيش.. صار الشبح الأبيض يقترب منّي أكثر وهو يتسلق الجدار الذي يؤدي إلى حيز المكان الذي أنا كامنا فيه.. لم يعد هناك متسعا لأتجنب الاصطدام به، فيما هو لا يشعر بوجودي.. أسأل نفسي بسرّي وأتعجب: ما أسمعه هو أن الخضر يتجلى بهيئة رجل رضي أو شيخ بثياب بيضاء أو خضراء، ولكني لم اسمع أنه يتعطر بعد منتصف الليل؟!!

هل هو “جني”؟! الجن ربما يتسلقون الجدران، ولكن لا أظنهم يلبسون ملابس التقى والورع، ولا أظنهم يتعطرون إلا إذا كانت “جنية” تريد إغواء الرجال، أما هذا الشبح الأبيض فهو بخلاف ما هو مسموع ومروي عن الجن!

وأما لو كان الخضر أو أحد من أولياء الله الصالحين لكان حري به أن يدرك أن في طريقه فتى يده على المقبض وسبابته على الزناد، من المحتمل أن يطلق الرصاص عليه في أي لحظة! لم أسمع يوما أن رجال التقى والورع يتسلقون الجدران في هزيع الليل، وينثرون عطرا يهبل النساء في لجته!! أشتد عجبي وارتيابي وشكوكي في الأمر من أوله إلى آخره..

بعد لحظات وجدت نفسي بمواجهته تماما، لا تفصل بيننا إلا مسافة في حدود المترين.. لا محالة سيصطدم بي قبل أن يبدأ بتسلق الجدار المسنود ظهري إليه..

الاصطدام وشيك.. انتفضت من مكمني مباغته، وهجمت عليه واضعا فوهة بندقيتي الآلية بين جنبيه، وأنا أباشره بالسؤال: من؟! من معي؟! كانت المفاجئة له صادمة وصاعقة.. تكاد أصبعي تضغط على الزناد واطلاق النار وشيك في حال أبدى أي حركة مريبة أو مقاومة منه، وحتما سينتهي الأمر هنا بقتيل مجهول قاتله.. غير أن ردة فعله كانت مملؤة بالجزع والارتباك، وأجابني بصوته الهلوع: عمّك “فلان..” عمّك “فلان..” عمّك “فلان..”.. أحسست أن قلبه يكاد يقفز من بين ضلعيه.. كدت أسمع خفقات قلبه.. الخوف يجتاح جسده، والهلع ينتشر في أوصاله كطوفان..

أنزحت عنه وتركته يمضي، وتمنيت أن يكون هذا العاشق ـ أغلب الظن ـ قد أحتال عليّ وقال لي “أنا وليكم الخضر” لو فعلها وأحتال وبرر لاختلفت الحكاية هنا، ولا أدري ما كنت سأنتهي إليه.. لو قالها وأستطاع تبديد شكوكي والإجابة على أسئلتي لربما كانت القصة أكثر تشويقا مما هي عليه الآن.. لو تطفّلت عليه، وكشف لي عن سره، وباح لي عن تفاصيل عشقه وحبيبته، لكانت قصته اليوم مع قصتي أشوق وأمتع مما هي عليه الآن..

لقد نجح كثير من القتلة والمحتالين والانتهازين واللصوص والفاسدين على التغرير بنا وخِداعنا، بل وخداع شعوبهم معنا بمكر وخبث وتقية حالما زعموا أنهم في مقام الخضر والأولياء بل والملائكة، فوثقنا بهم، وإذ بنا نكتشف بعد حين بكلفة باهضه إن لم يكن بكلفة وطن انهم الشر والخبث والمكر كله..

***

 

(7)

في بيتنا أشباح !

يومها صارت الأشباح في وعيي شيئا من الماضي.. ليس فيها ما هو واقعي.. ربما بدت لي مجرد وهم في رؤوس بعض البشر المعتقدين بوجودها.. صرت أعتقد أن لا أثر لهم ولا وجود.. قناعة بدت لي راسخة وقوية، مع بقاء بعض غموض في تفسير تلك “الحادثتين” التي تعرضت لهما أيام طفولتي، الثعبان الذي شاهدته على الأرض، والعجوز الشمطاء التي شاهدتها في المرآة، ومع ذلك لازلتُ أعتقد أن هناك تفسير علمي ما أو مقاربة لفهمهما من منظور علمي يختلف قطعا عمّا هو سائد أو غالب في وعي الناس..

لم أعد ذلك الطفل الذي يخاف من الأشباح والظلام، بل صرت أبحث عن أولئك الأشباح، ولا أجدهم.. أضع لما أسمع من حكايات الأشباح أكثر من تفسير وافتراض إلا افتراض وجودهم.. ولكن حدث أمر غريب، يستحق السؤال المعرفي أو التفسير العلمي لما حدث، بعيدا عمّا هو شايع وراسخ في الوعي الشعبي، مع التأكيد مرة أخرى أن طرحي للأمر هنا هو من قبيل السؤال المعرفي ليس إلا.. من المهم معرفة حقيقة الواقع كما هو بالضبط، وتصحيح ما يستحوذ في وعي الناس من معتقدات وأفكار خاطئة، وكشف ما لا زال غامضا أو ملتبسا أو عصيا على الفهم..

***

كنت قد صرتُ أحمل يقينا أن لا وجود للأشباح إلا في وعي الناس، وفي زيارة لأسرتي ودارنا في القرية أثير ما هو غامض ويلقي الحيرة والسؤال.. ففي أول يوم الزيارة، وقبل أن أنام بمعية أفراد أسرتي، سمعت وقع خطوات، وركض، وحركة نشطة على سقف الديوان الذي ننام فيه.. تتالت تعليقات الأهل على ما نسمعه.. قول يقول: “ندّروا” وآخر يعلّق: “وقتهم”، وثالث يضيف: “دروا أنه بدأ موعد نومنا”، ورابع يقول: “الحين زامهم”.. كان أهل البيت قد تعودوا و تعايشوا مع هكذا وضع، فيما أنا وجدتها فرصة لاستكناه الأمر وكشفه، وأعيش التجربة بنفسي..

كان اللافت والأهم بالنسبة لي أنني ليست وحدي من يسمع ما أسمع، بل كلنا نسمع وبالتفاصيل.. أي حركة نسمعها جميعنا.. ليس فينا واحد يسمع ما لا يسمعه الآخرين.. كنّا نسمع ركض أشبه بركض أطفال يلعبوا على السقف.. تلتها حركة نشطة وكأنها ذهاب و إياب لبعض الأفراد على ممشى السقف.. ثم وقع خطوات ثقيلة جدا، تبدو وكأنها لشخص ثقيل الحجم، تستطيع أن تعد خطواته وهو يمشي.. الحقيقة لم أشعر بالخوف، بل شعرت إنها فرصتي لاستكناه الأمر وكشفه بنفسي، ومعرفة ما يحدث وسببه!!

سألت شقيقي عبدالكريم من متى يحدث هذا الأمر الغريب..؟! فأجاب:

– أكثر من شهر..! يتكرر بشكل يومي.. ما ان نهمُّ بالنوم حتى نسمع هذه الاصوات، احترت كثيرا ولجأت إلى عدة حيل لمعرفة السر وحدوث هذا الأمر الغريب .. استشرت عدة اشخاص ممن اثق في رأيهم و لم تكن اجابة أي منهم مقنعة أو مفيدة..

ويضيف:

– لجأت لشخص يدعى بـ ”السيد” لكن ما قاله لم يكن مقنعا.. لجأت الى عدة اساليب وحيل معرفية لرصد ما يحدث ومحاولة كشفه.. ذررت رماد على السقف لعلّي اجد اثر لقدم او لمرور أي شيء ولكن دون جدوى.. حاولت أن أضع صاعق قنبلة وخيط يمكنه أن ينفجر بمرور أي جسم، فأنفجر عن طريق الخطاء فوق أمي! وفي كل حال لم اصل الى نتيجة تستحق شيئا من التعويل أو الاهتمام.. عندما أنزل من السقف للنوم، وما ان اغلق باب الديوان لننام نسمع ما تسمعه الآن.. أذهب لأستطلع الامر ولا اجد شيئا مما أبحث عنه.. افتش كل الأمكنة في الدار ولم أجد أي أثر لأي شيء غريب أو غير عادي..

***

بعد شرحه لما فعله، زاد شغف فضولي المعرفي المتحفز لتفسير ما يحدث!! وجدت من المهم أن اعتمد على تجربتي وحواسي، ومحاولة استكشاف الأمر بنفسي.. حملت بندقيتي، وعمّرتها، وصارت جاهزة لإطلاق الرصاص، ووضعت أصبعي على الزناد.. تسللت إلى السقف ومكثت مدة ساعة أرقب الأمر..

لم أرَ شيئا!! لم أسمع شيئا غير طبيعي، بل كان الصمت يلف ويطوي المكان بما فيه!! السكون يسود ويطغى.. أعود إلى الديوان أسمع كل شيء أنا وأسرتي.. أعود مرة ثانية إلى السقف فلا أسمع شيئا، فيما أسرتي التي في الديوان يرقبون الأمر معي من مكانهم، ولم تنقطع الأصوات التي في السقف عنهم..

أضيء الكشاف.. أفتش السقف، وكل ما له صلة فيه أو لصيقا به، ولكني لم أجد شيئا، ولم أسمع أكثر من حركتي وأنفاسي التي أحاول خفضها وتعويضها بمجال أوسع لصالح السمع.. أنزل مرة أخرى إلى الديوان فاسمع ما يسمعه الجميع.. أعود فلا أسمع ولا أرى شيئا.. حيرة بلغت حد أغرقتني في الذهول..

شعرت بفشلي المؤكد، غير أن فضولي ظل متحفزا، يرفض الاستسلام، ويتوق لمعرفة ما هو غامض.. انتظر قليلا في الديوان وما أن أسمع بركضة في السقف أهرع إليه بسرعة وكأنني أريد ان ألحق ما أريد اكتشافه أو القبض عليه متلبسا.. أعود بتحدي أكثر وبحب وشغف معرفي وعناد مثابر.. فلا أجد ولا أرى شيئا غير طبيعي في السقف.. أمكث بعض الوقت حد الملل والسأم ولم ألحظ أي شيء، ولم أسمع إلا صمت مطبق كصمت المقابر.. أفتش كل شيء في الدار ولا أجد ولا أسمع شيئا.. وأتسأل بحيرة: كيف أكون بالسقف ولا أسمع شيئا، فيما لا تنقطع الأصوات عمّن هم في الديوان..؟!

أعيتني الحيلة وأعجزتني الوسيلة لاكتشف شيئا ما.. كنت شغوف لأعرف شيئا يفسر الأمر.. كانت دوافعي معرفية أكثر من أي شيئا آخر.. لم أنس فرضية أو احتمال إلا ووضعته في الحسبان.. لم أترك احتمال إلا واختبرته.. أريد أن أعرف السبب لأبدد حيرة استولت على تفكيري، وبدلا من إزالتها كبرت حيرتي واستغرقني الذهول..

لاذ أحد أقربائي إلى الطلاسم والتعاويذ وبعض من الذكر، غير إن الأمر أشتد يومين حتى بتنا وكأننا نغالب قدر يريد إخراجنا من منزلنا بالقوة تحت تأثير الرعب والهلع.. رفضنا الخروج.. قاومنا “احتلال” مسكننا بإصرار عنيد.. لم نتخلِ عنه قيد أنملة.

كان الرعب يشتد، فيما نحن نواجه هذا الرعب باستحالة الخروج مهما اشتدت وبلغت كلفة البقاء في منزلنا.. إنه العنوان الأول لأبجديات وطن يستحق الدفاع.. كانت لاتزال تلك العبارة على منصة الاستعراض العسكري في الميدان الأسود بالكلية العسكرية شديدة الحضور في نفسي وأعماقي: “وطن لا نحميه لا نستحقه”.

بعد يومين أو ثلاث أيام من شدة بلغت ذروتها، وبلغنا فيها ذروة صمود عنيد، كانت بيننا أشبه بعضِّ الأصابع، انفرجت بانتصارنا وزالت صناعة الخوف.. أنتهى كل شيء لصالحنا.. كسبنا الحرب و”انسحبت” الأشباح وقد خسرت حربها معنا.. هكذا دارت الحرب في مخيالنا، وبقي غموض تلك التجربة يحتاج إلى علم وبحث ومعرفة..

***

ظل غموض ما مررنا فيه من تجربة قائما إلى اليوم، وبقيت الأسئلة بالنسبة لي دون جواب..!! لم أجد منطق يسندني أو تفسير مقنع يشفي حيرتي عن حقيقة ما حدث.. بقي السؤال الرئيس بالنسبة لي دون جواب.. ماذا الذي حدث وكيف؟!!! هذا لا يعني التسليم بفرضية وجود الأشباح، ولكن يعني أننا بحاجة إلى علم ومعرفة تفسِّر لنا ما حدث، أو بالأحرى تفسِّر ما سمعناه، وتبدد غموضا عشناه، ولطالما قرأنا وسمعنا من آخرين عنه الكثير..

هناك أمور غرائبية كثيرة قرأت عنها تحتاج إلى تسليط مزيد من الضوء والبحث العلمي والمعرفي عليها بعيدا عن التفسير الخرافي، ومنها تلك التي تغوص في معرفة قدرات العقل وآفاقه، أو أسرار دماغ الإنسان وخفاياه، أو ما يتعلق بالوجود الموضوعي ذاته في كثير من ظواهره المحاطة بالغموض..

قرأت بعض من ذلك في كتاب أشباح وأرواح للكاتب المصري أنيس منصور.. وهناك كتب أخرى تتناول كثير من الافتراضات والوقائع عن العالم الخفي أو القوى الخفية، والقدرات الخارقة، والعائدين من الموت، وتحضير الأرواح، والوسطاء الروحيين، والحياة بعد الموت، والسحر، والتنويم المغناطيسي، والتخاطر من بعد، والأطباق الطائرة، وقارة أطلنطس الغارقة في قاع المحيط، وغيرها الكثير والكثير.. وكانت الخلاصة أننا نحتاج إلى علم يسلّط الضوء على تلك الظواهر، ويكشف غموضها وملابساتها وتفسيرها..

 

***

يتبع..

موقع يمنات الاخباري
موقع برلماني يمني
صفحة أحمد سيف حاشد على تويتر
صفحة أحمد سيف حاشد على تويتر 2
حساب أحمد سيف حاشد على الفيسبوك
صفحة أحمد سيف حاشد على الفيسبوك
قناة أحمد سيف حاشد على التليجرام
مجموعة أحمد سيف حاشد على التليجرام
أحمد سيف حاشد
“Yemenat” news site
MP Ahmed Seif Hashed’s websit
Ahmed Seif Hashed “Twitter”
Ahmed Seif Hashed “Twitter”
Ahmed Seif Hashed “Facebook”
Ahmed Seif Hashed’s Facebook page
Ahmed Seif Hashed
Ahmed Seif Hashed channel on telegram
Ahmed Seif Hashed group on telegram

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى