مذكرات
السلسلة السادسة.. التعليم الابتدائي 1 – 7 أحمد سيف حاشد
مذكراتي.. من تفاصيل حياتي.. أحمد سيف حاشد
السلسلة السادسة
التعليم الابتدائي
أحمد سيف حاشد
(1)
مدرسة الوحدة
دراستي الأولى كانت في مدرسة “الوحدة” بـ”شرار” في “القبيطة”.. بدأت هذه المدرسة بمدرِّس واحد فقط لجميع المواد، وهو من مواليد “الحبشة” لأب يمني من القرية، اختير ليدرّس أبناء المنطقة المحرومين من التعليم القراءة والكتابة، وشيئا من المعرفة والتعليم الأساس على نمط كان على مقاس تلك الأيام حديثا ومتقدما في مناطقنا، ويُستخدم فيه الدفتر والقلم، ومغايرا لما كان معهودا وموجودا من قبل.. كان التعليم في قرانا على أيامنا عزيز، ويُكتسب بجهد مضني ومثابرة كديدة. بمقابل نقدي متواضع، ومقدور عليه من قبل الآباء.. هذا الأستاذ القدير المدانين له في تعليمنا الأول، بل ربما في تعليمنا كله هو الأستاذ علي أحمد سعد لا سواه.
كان التعليم قبله في مناطقنا قليل ونادر، ويأخذ شكل قراءة القرآن، وكتابته باللوح والدواء والجَرع.. أذكر أنني سمعت عن سيف مطهر الذي كان يعلّم الأطفال القراءة والكتابة على اللوح الذي يُحمله الأولاد على ظهورهم، وهم يرتادون ما كانت تُسمى بـ “المعلامة”، ذاهبين وآيبين إليها.. وكانت تلك الدراسة تقليدية جدا، وتعتمد على الحفظ، والترديد الجماعي لما يقرأه الفقيه، وتبتدئ بقراءة الحروف بطريقة “أ” لا شيء له و”ب” نقطة من أسفل.
أما الطريقة التي أعتمدها أستاذنا علي أحمد سعد فكانت على نمط حديث، وتبدأ بتهجي الحروف ضما وفتحا وكسرا، وتعليم القراءة والخط والإملاء، ثم تزداد المواد كلما تقدم الطالب في دراسته، حتى تصل في شمولها بعض الأنشطة مثل الرياضة، والرسم، وبعض المهارات الفنية الأخرى مثل النحت، وتشكيل نماذج لبيوت من ورق الكرتون، أو لب القصب أو غيره..
كان هذا الاستاذ إجمالا مثقفا ومعلما ممتازاً وصارماً ومهتماً، وفي نفس الوقت كان أيضا قاسيا في تعامله معنا لمجرد أدنى تقصير أو إهمال، أو تأخير عن الحضور في موعد الطابور الصباحي.
ابتدأت مدرسة الوحدة بهذا الأستاذ وحيدا، وبمسجد قروي متواضع، يسمى “مسجد عبدالولي” نسبة إلى “عبد الولي” وهو أحد الأولياء الصالحين، وقبره لازال لافتا وبارزا في وسط المسجد. وتوجد حُجرة في جوار المسجد تسمى “الشمسرة”، وتم بناء غرفة للإدارة جوارها، وبناء ثلاثة أو أربعة فصول أخرى من تبرعات المواطنين من أبناء المنطقة، وجاء بناء بعض تلك الفصول على طرف مقبرة قديمة لا نعرف إلى أي زمن تعود.. بدأ البناء فيها عندما غلبت فتوى جواز البناء على فتوى منع البناء، وصارت المقبرة فناء للمدرسة..
درسنا وتناوبنا الأمكنة في البداية بين سطح المسجد وداخله، وتحت شجرة السدر أمام المسجد، وربما أيضا في حجرة كان يطلق عليها اسم “الشمسرة” وكانت مُلاصقة للمسجد..
مدرسة الوحدة هي مدرستي الأولى التي درست بها إلى الصف الرابع ابتدائي، وربما قليلا من مستهل الصف الخامس ابتدائي قبل أن أغادرها إلى دراسة الصف الخامس في مدرسة أخرى تابعة للشطر الجنوبي من الوطن في منطقة “شعب” التابعة لمركز طور الباحة..
اطلاق اسم “الوحدة” على المدرسة بالنسبة لي كان جاذبا، وكنت سعيدا ومعتزا به، حتى بعد أن أكملت دراستي الجامعية، لاسيما عندما أتحدث عن دراستي الأولى، ولعل هذا الاسم ومضمونة كان جزء أصيلا منّا، ومعبرا عن عمق ذاتنا وانتمائنا وحنيننا، وأملنا الجارف لتحقيق الوحدة اليمنية بل والعربية، والتي لطالما حلمنا بها، بل كانت تقف على رأس أحلامنا العريضة والكبيرة حتّى ونحن أطفال..
كانت عصا الخيزران التي على ما يبدو أن (الاستاذ) علي أحمد سعد قد أحضرها معه من الحبشة لعقاب تلاميذه هي الوسيلة الأكثر استخداما في التربية والتعليم من خلال إنزال عقوباته على تلاميذه عند الإهمال أو التقصير أو التأخر عن الطابور..
(الفلكة) واحدة من بين عقوباته الشديدة التي ينزلها على بعض تلاميذه، وهي الجلد أو الضرب على قاع القدمين، وتربو أو تصل أحيانا إلى عدد العشرين، وهي عقوبة قاسية لأطفال مثلنا، حد ظننت في بعض الأحيان وأنا أعيشها إنها أميل للانتقام منها إلى العقوبة، وربما ظننتُ تحت وطأتها ومن موقعي كتلميذ أن الأستاذ يستلذ بتلك القسوة، فيما الاستاذ ومن موقعه له تبريراته لمثل تلك العقوبة التي ينزلها علينا، لعل أهمها أنها تعود بالنفع والفائدة لنا، وحملنا على عدم الإهمال والتراخي في التعلُّم.
من أجل تنفيذ عقوبة الفلكة بحق تلميذ مقصّر كان يحتاج إلى أربعة من أقرانه من ذوي الأجسام الغليظة لمساعدته في تنفيذ عقوبته، يمدونه على الأرض ويمسك اثنين منهم بيديه وصدره ومثلهم يرفعون قدميه ويمنعونه من الحركة، ليتولى الأستاذ الضرب بالخيزران بقوة على قاع القدمين المضمومتين أمامه أو بمحاذاته..
ومن عقوباته الشائعة التي يكثر استخدامها الضرب بالخيزران على بطن الكف، بشكل متوال يصل فيها عدد الجلدات أحيانا إلى عشر لكل كف، وإذا أراد التشديد بعقوبة الضرب على يدي تلميذه أكثر كان يمكنه أن يضربه في ظهر الكفين بالخيزران، وكان الألم أشد وأوجع علينا..
كنّا نجد أنفسنا أحيانا لا نقوى على مد اليد جراء شدّة الألم الناتج عن هذا الضرب.. نحس أن أكفّنا تكاد تنفطر دما، وأحيانا نحس أننا غير قادرين على حملها، وربما أحسسنا أيضا في بعض الأحيان إنها قد شُلّت أو أدركها الشلل.. نشعر بقسوة كبيرة من قبل الأستاذ وهو يستخدمها دون مراعاة لألم لاسع يصل شرره أحيانا إلى الجمجمة.. وفي أيام البرد يشتد ويتضاعف أكثر إحساسنا بالألم، حتى وإن تم إنقاص عدد الضربات بالخيزران حتى لا نطفح أو يقتلنا الألم..
ومن عقوباته الجسدية الأقل وطأة، هي إجبار التلميذ على أن يقف على ساق واحدة، أو الضغط على الإذن بثلاث من أصابعه بعد أن يضع حصية تحت إحدى الأصابع ليضغط بها على شحمة الإذن، بينما يضغط بالأصبعين الآخرتين على الجهة المقابلة ليزيد من حدة الألم الواقع علينا..
هذه القسوة المفرطة في العقاب لم تكن تلاقي تحفظا أو اعتراضا من أولياء أمورنا، بل وتجد تأييدا منهم، وربما يُسعد بعضهم بما يفعله الأستاذ بأبنائهم حيث يرون في تلك العقوبات إنها تصب في صالح ومصلحة أبنائهم، أو هي ضد التقصير والإهمال من قبلنا للتعليم.
***
(2)
مقلب لم أنساه
كنت على الدوام أشعر بقلق ورعب شديد من العقاب.. الخوف يتملكني.. سلطة الخوف لها وطأتها على نفسي.. لم يكن هناك مكان لصنع القناعات التي يؤسسها الوعي لا في البيت ولا في المدرسة.. مدرسة العقاب هي من تحكمنا، ولها الكلمة العليا.. كانت أو تكاد تكون “مدرسة” بصلاحية عقاب يشعرنا الآباء والأستاذ إنها مطلقة..
لا يمكن للأب أن يقول للأستاذ أرفق بابني عند العقاب، بل كان الأب هو من يحث ويشجّع الأستاذ على عقاب ابنه، وأكثر من ذلك يفوّضه بمزيد من الشدة والصلاحية.. الأب يستريح ويشعر بالامتنان للمعلم إذا أنزل بابنه عقوبة مهما كانت شديدة ومؤلمة.. وضع ربما يشعرك وكأن رغبة سادية من الطرفين نحوك تجتمع.. وتجد نفسك محشورا بينهما في زاوية ضيقة، لا مهرب أمامك ولا مفر منها وراءك..
كنّا محكومين بسلطة الخوف من الأب في البيت، ومن الاستاذ في المدرسة.. كان يخامرني أحساس عميق إن عقوبات الأستاذ والأب قاسية ومنفِّرة وغير إنسانية، ومؤلمة للجسد والروح!
كنتُ نحيلا ومُنهكا.. وجهي شاحب ومصفر.. ما زلت أذكر بعض التقاطيع التي كانت تغزو وجهي في طفولتي الباكرة، والتي يفترض أن تأتي في وقت متأخر من العمر.. الخطوط العمودية التي كنتُ أشاهدها بين العينين، وهي تفترس وجه طفولتي، لازالت محفورة ومطبوعة في ذاكرتي كوشم قديم لا يزول ولا يُنسى..
***
حاولتُ التمارض حتى لا أذهب إلى المدرسة.. كان عدم الذهاب إلى المدرسة يعني بالنسبة لي أن همّا كبيرا ينزاح ثقله عن كاهلي.. غياب يوم من المدرسة لأي سبب، يجعلني سعيدا، حتى وإن كنتُ أعاني من المرض، وربما أتمنى هذا المرض أن يطول أكبر فترة متاحة أو ممكنة.. أشعر براحة لا مثيل لها رغم وطأة المرض.. أتحرر من هم المدرسة يوم أو اثنين وهو المدى المتاح لي أن أفعله.. كان غياب أي يوم لأي سبب يعني لي فسحة تخفف من مخاوفي وأنجو فيها من الأستاذ والمدرسة والعقاب..
في إحدى الأيام قلت ببراءة طفولية لأخي الكبير علي سيف الذي كنت أحبه كثيرا: “سوف أقول لك سرا، ولكن بشرط أن لا تقوله لأحد” فوافق وأعطاني الأمان ومنحني الثقة؛ فأخبرته أنني في الغد سأمرض حتّى لا أذهب إلى المدرسة؛ فوافق، وزاد على موافقته نصيحته لي أن أقسم رأس بصل، وأضعه قبل النوم تحت الإبطين، لأبدوا محموما في الصباح.. قال لي أنهم كانوا يفعلون هذا عندما يريدون التمارض في العسكرة..
فعلتُ بنصيحته أخي وحكمته، ولم أنام تلك الليلة إلا قليلا حرصا على قطعتي البصل المحشورة بين الإبطين حتى لا تتفلت أو تسقط من موضعها أثناء النوم أو الحركة.. كانت رائحة البصل نفاذة وكريهة وتضايقني جدا، إلا إنها كانت في كل حال أهون لدي من المدرسة..
أخي الذي كان يفترض أن يفي بوعده، ويكتم السر وتحديدا عن أبي، أو على الأقل كان يُفترض أن لا يوافق على ما أنتوي فعله، ذهب إلى أبي وأبلغه سرا بنيتي، وبات المقلب جاهزا لي، ووقعتُ في فخه كم يقع الأرنب البري في مصيدة الصياد، وعلى العموم هو مقلب لم أكن أتوخاه أو أتوقعه..
وعندما نادني أبي في الصباح أن أذهب إلى المدرسة، قمتُ بالتمثيل عليه والتذرع بأنني مريضا جدا، وحاولت أن أوهمه أنني لا أستطيع النهوض من الفراش بسبب شدة المرض.. تثاقلتُ وتعثّرتُ أثناء محاولتي النهوض، لوطأة المرض الذي أحاول تقمصه..
كنتُ أفترض أو أتوقع أن أبي سيهتم لأمري بمجرد أن يشاهدني مريضا لا أقوى على النهوض وحمل نفسي.. توقعتُ أن يضع قلب كفه على جبهتي ليتأكد أنني ساخنا ومحموما، أو ربما لا يهتم ويتركني أمرض بسلام يوم أو يومين، وهو المتاح الذي بإمكاني أن أسرقه خلسة من أيام المدرسة، تقديرا للحالة المرضية التي أدّعيها، أو أبدو أمامه فيها.. ربما توقعت أن يصرخ في وجهي لأن أذهب إلى المدرسة، دون أن يحملني بفعل على الذهاب بإرغام، لاسيما وهو يراني متهالكا لا أقوى على النهوض فضلا عن الوقوف، فيتركني ذلك اليوم بعذر المرض، ولكن الذي حدث كان صادما لي وغير وارد في احتمالاتي..!
فبدلا من يهتم أبي لأمري، أو يتركني لمرضي الذي أدّعيه، وجدته بخفة ساحر يمد يده إلى إحدى فردتي حذائه التي ينتعلها، وهوى على وجهي ورأسي صفعا وضربا، لأجد نفسي أنهض مذعورا وصارخا بأعلى صوتي، وراكضا مثل لص تلاحقه كتيبة من الرجال للقبض عليه.. لقد أدركتُ من أول صفعه تقع على رأسي أنني وقعت ضحية خيانة قُصد منها التربية، أو الوقوع بفخ بلاغ غير كاذب.
هذه الواقعة ربما صارت عقدة في حياتي، لاسيما فيما يخامرني غالبا من شك وارتياب نحو الآخر، وربما هي السبب الذي جعلني أفشل مرارا في أي دور أتصنّعهُ حتّى وإن كان تحت إلحاح مسيس الحاجة والضرورة، وكذا أيضا فشلي الذريع في تقمص دور أي شخصية أخرى غير شخصيتي الحقيقة وطباعها الصارخة، بل وحتّى الكذب أجد إتيانه من قبلي محل صعوبة أو استحالة، وربما لأهل الاختصاص والاطباء النفسيين في هذا رأي آخر..
تذكّرتُ هذه القصة وأنا أستمع لكتاب مقروء هو “وعاظ السلاطين” لعالم الاجتماع العراقي الدكتور على الوردي وهو يتحدث عن الصيغة الماكرة بين ما نعلنه للناس وما نخفيه عنهم ونضمره.. وعّاظ السلطان، وتحالف الوعّاظ مع الطغاة.. الأزمة النفسية بين الواعظ الذي يحض الناس على ترك الدنيا ومتاعها وغرورها وودّه الاغتراف من مناهلها بكلتا يديه.. توظيف الوعظ المثالي في خطاب إيديولوجي وسياسي وتكفيري صارخ.. التفكير الخبيث الذي نشاء في أحضان الطغاة، وترعرع على فضلات موائدهم.. التصفيق للظالم، والبصق في وجه المظلوم.. العلاقة بين اشتداد الظلم الاجتماعي وازدياد الوعظ أكثر.. المغالاة الذي يتسم به خطاب الوعظ، وما هم عليه في حقيقة الواقع..
قصتي تلك تذكرتها وأنا أرى من يدين الجرائم التي تحدث في فلسطين ـ وهي جرائم مدانة دون شك ـ وما يقترفه حكامنا اليوم من جرائم أكثر ترويعا وبشاعة بحق شعوبهم، وتوظيفهم لما يحدث في الخارج لجلب شرعية ما لحكمهم، وترسيخ سلطانهم وطغيانهم على شعوبهم، وتعويض فشلهم الاقتصادي والاجتماعي، وإخفاقاتهم الشاملة والمتكررة حيال استحقاقات أوطانهم وشعوبهم في الداخل، والهروب منها إلى إسرائيل وأميركا وغيرها من القضايا الخارجية.. توظيف واستغلال الأحداث السياسية في الخارج لخدمة أنظمتهم القمعية في الداخل.. أحسست أننا بحاجة لألف حذاء، ومليون صفعة تصلح شأننا..
تذكرت قصتي تلك وأنا أرى التناقض الصارخ الذي نعيشه اليوم بين ما يُقال وما يتم فعله.. المفارقة التي أشاهدها بين الحقيقة وما يتم ادعائه.. بين الواقع والوهم.. مزاوجة السياسية بالدين أو توظيف الدين لخدمة السياسية، أو لخدمة أجندات السلطة ومصالح وأطماع الدول.. وقد قيل ”إن السياسة ما دخلت في شيء إلا أفسدته“.
تذكرتُ قصّتي تلك وأنا أرى الدجالين المدعيين يدّعون لأنفسهم الصلاح والتقوى والورع، ويحظُّون الناس عليها وعلى العدل والقسط، وتأكيدهم لرفض الظلم، بل والدعوة إلى مقاومته، ولكن بشرط أن يكون هذا بعيدا عن الشعوب التي يحكمونها، فيما ترتكب هذه السلطات في واقعنا وبحقنا وبحق شعوبنا كل مرعب ومروّع ومستبد..
يدينون تعصب الأخر فيما هم يمارسون العصبيات المنتنة كلها.. يتشرّبونها منذ نعومة أظافرهم.. يغرقون في وحولها، ويسقطون إلى قيعانها السحيقة، أو تهوي فيهم إلى قاع الجحيم..
يدعون إلى العلم والتفكير العميق، فيما هم في الحقيقة يشبعون مناهجنا التعليمية بالتعصب المقيت، والجهل الثقيل، ويعمدون إلى تكريسه في المؤسسات التعليمية من الروضة إلى المدرسة ثم إلى الجامعة، وقد نجحوا بالفعل في تحويل تلك المؤسسات التي يُفترض أن تكون تعليمية وعلمية إلى ساحات ترويض وتدجين وتبليد، يطفئون بها مشاعل العقل، ويؤودون فيها التفكير الحر، ويلجمون البحث العلمي ومناهجه بألف قيد وقيد..
***
(3)
اتركوا التيس واربطوا جمعة !
في إحدى أيام مستهل عهد دراستي الأول، تأخرتُ عن الطابور المدرسي، وخشيتُ من العقوبة التي سيتخذها أستاذ المدرسة ضدي، وبدلا من أن أذهب إلى المدرسة، ذهبتُ إلى حجرة فوق زريبة بقرة جارنا مانع سعيد..
كانت تلك الحُجرة بمثابة نُزُل مخصص لاستقبال الباعة المتجولين الغرباء، والذين يقضون فيها يوم، أو يومين إن طال بهم المقام، وأغلب الأحيان تظل فارغة لأسابيع دون نزيل..
هربتُ من عقوبة التأخير من الطابور الصباحي إلى ورطة أشد منها، وهي الغياب عن المدرسة كلها ليوم كامل.. هكذا وجدتُ نفسي أوغل أكثر في ورطتي تلك، أو أنتقل من ورطة إلى أخرى أكبر منها..
في اليوم الثاني، ذهبتُ إلى نفس الحُجرة، وتكرر المشهد في اليوم الثالث والرابع، لأجد نفسي كل يوم أدخل في ورطة أكبر وأشد وخامة عمّا قبلها..
كل يوم يمر أشعر أن ورطتي تتعاظم، وتوقّعي للعقاب يكبر بالموازاة مع استمرار غيابي من المدرسة.. وكلّما زاد تغيُّبي انتابني خوف وهلع، واعترتني خشية كبيرة من عقوبة أشد إيلاماً، حتّى تبدّت لي في اليوم الرابع أنها ستكون فادحة..
لقد افتقدتُ إلى الشجاعة من اليوم الأول في تحمُّل مسؤولية ونتيجة الخطأ الأول، فظل هذا الخطاء يكبر ويتسع، ومعه كانت العقوبة المؤجلة تكبر على نحو موازي للخطأ..
ست ساعات في اليوم أقضيها في تلك الحُجرة الكئيبة.. كان الحال عصيباً والساعات ثقيلة، وقد أحسست بوزنها القاتل، وأنا أنسحق تحت دواليبها، وكأن قطارا يمر على جسدي المُنهك.. غير أن الشجاعة ظلّت تخونني في الاعتراف بالخطاء والاستعداد لتحمل المسؤولية..
كانت الساعات تمر بطيئة بطء السلحفاة في أرض لا تخلو من وعورة.. ساعات مملة ورتيبة.. لم أكن أعرف مسبقا أن تلك الساعات ستكون على تلك الصورة التي عشتها، أو على ذلك النحو من البطيء والرتابة، حتّى وإن كنت أراها في الوقت نفسه أقل وطأة من عقاب ينتظرني ظل يشتد ويزداد مع كل يوم يمر، وربما صار يفوق احتمالي.. إنه الهروب إلى الأمام، ومن فادح إلى ما هو أفدح..
كنتُ أحاول أن أخفف من وطأة رتابة تلك الساعات بالنظر إلى الفضاء المقابل والمحصور بزوايا النافذة الصغيرة الذي يطل منها نظري بحذر وتخفّي..
كل يوم يمر في تلك الحجرة التي أخترتها حبساً اختيارياً، أعاني منها وأُنهك لمدة ست ساعات من الانتظار ونزيف الروح..
أشاهد جزءا صغيرا من الوادي الذي تشرف عليه تلك النافذة.. أمعن النظر في الذاهبين والآيبين فيه، وكلما سمعت صوتا ما في الجوار القريب انتفض مرتاباً لأرقب من شقوق الباب ماذا يحدث خارجه! وكلّي توجّس وقلق من انكشاف أمري ومخبئي..!!
ربما أيضا في بعض الأحيان وبدافع الفضول وحب استطلاع للجهة المقابلة لباب الحجرة المصنوع من الألواح والصفيح، يطل نظري المحبوس من شقوق الباب، وأحيانا بدافع التنزه وتفريج الضيق أجد نظري يجول بحذر هنا وهناك، ويشتد محبسي مع مرور الوقت الزاحف ببطيء، ويشتد الوقت بطئا كلما طال وقت الانتظار.
في اليوم الخامس انكشف أمري وفضحني السؤال، حيث سمعت الأستاذ يسأل أبي عن سبب غيابي المتكرر.. فأجابه والدي بدهشة مصدوم أنني أذهب كل يوم للمدرسة، وما أن تنامى هذا إلى مسمعي هرعتُ إلى المدرسة هرولة، وأدركتُ حينها أن الفأس قد وقع في رأسي، وأن أمري قد انكشف وأفتضح، ولابد أن أستعد لدفع ثمن باهض من الألم دفعة واحدة لا أعلم مقدارها، ولا أعلم قدرة تحمّلي لها..
***
ربما كنتُ يومها معذورا لأني لازلت طفلا لم أرشد، بل لم أصر حدثا بعد في بيئة شديدة القساوة، وتفتقر للحد الأدنى من الثقافة التربوية و وسائلها المصاحبة، بل كانت جلّها معكوسة، ووسائلها جافة أو مشوهة أو غير متوفرة أصلا..
اليوم الهاربون إلى الأمام باتوا أفرادا وأرتالا وجماعات.. تبدّل الحال عن أمسه وأنقلب رأسا على عقب.. بات الهروب إلى الأمام مألوفا ومعتادا.. صار الهروب من ورطة إلى أشد لا تقتصر على طفل مثلي، بل وتتمدد إلى الأحزاب والقوى السياسية والثورات بل والشعوب أيضا..
إنها ليست قصتي فحسب، بل هي قصة اليمن كلّها، وشعبها برمته.. قصة القوى والنخب والأحزاب التي هربت إلى الأمام من سيء إلى أسوأ، ومن الأسوأ إلى الكارثة، ومن الكارثة إلى الأكثر كارثية.. من صراع داخلي، إلى إقليمي، ثم إلى دولي شديد التعقيد..!
ما حدث كان ردة فاجعة عن حلم واستحقاق الدولة إلى اللادولة.. هروبا حد الذعر من استحقاق وحلم الدولة المدنية الحديثة والديمقراطية إلى حرب لا تريد أن تضع أوزارها، ونحن نعيش عامها السابع من العبث والنزيف..
أستمر التراجع والنكوص من شبه الدولة، إلى الدولة الفاشلة، ثم إلى بقايا الدولة، ووصولا إلى ألا دولة.. تقزمت أحلامنا وتلاشت إلى ما لا كان يخطر على عقل ولا بال..
انتقلنا من الاختلاف إلى الخلاف إلى الصراع ودورات العنف المتكررة، ثم إلى حرب ضروس، تماشجت مع حروب داخلية وخارجية مريعة وفاجعة..
انتقلنا من الاحتجاج السلمي إلى معارك شتّى، ثم إلى حرب طويلة، أو من لا حرب إلى حرب ضروس، ثم إلى حروب متعددة لا تبقي ولا تذر..
ما حدث ويحدث يُذكّرني بتلك النكتة اليمنية بامتياز، والتي خلاصتها “اتركوا التيس واربطوا جمعة”. تقول النكتة:
دخل تيس الى الغرفة، وكان الأب يتعشى مع أولاده..
قال الأب لابنه الاكبر: قم يا جمعة اربط التيس بسرعة حتّى لا يركضنا..
قام جمعة مستعجلا، فخبط رأسه باللمبة وكسرها، فصار البيت مُعتما، ولم يعد جمعة يرى شيئا..!! فوقعت أحدى قدميه في صحن الأكل، فأنقلب الصحن، ونثر ما بداخله من أكل على الارض.. فقفز جمعة المذعور، وجاءت رجله اليسرى في بطن الأب، واليمنى بجبهته!!!
فصرخ الأب في اولاده: يا عيال.. خلوا التيس واربطوا جمعة!!
ما أكثر جُمعنا اليوم.. جُمعنا كانت رغم سوؤها أفضل مما هي عليه.. ربما كانت لا تخلوا من طيب ومسك وتسامح، فصارت اليوم رصاص وموت وبارود.. ما أكثر جُمع أيامنا، وما أشبه حالنا بنُكتنا التي تبعث على السخرية اللاذعة، والمرارة المقذعة، والألم الأشد..
ما حدث ويحدث بات يفوق بكثير احتمال وصبر اليمن، وهو واقعا بات حاصلا وما كان ليخطر على بال أو خيال..
***
(4)
يوم في الجحيم
غياب تلك الأيام القليلة جعلني أحس بغربة المدرسة.. إنقطاع رغم قصره جعلني أشعر أنني غريب عن أقراني الطلاب.. ربما كان حالي أشبه باليوم الأول التي أرتدتُ فيها هذه المدرسة.. انطوائي وخجول وأشعر بالوحدة والغربة والإنزواء..
استدعاني الأستاذ للحضور أمامه.. وبمجيئي نهض واقفا ومتحفزا.. بدأ على نحو استعراضي، ولكني أحسست أن في داخلة مرجل يغتلي.. بدأ يحوم عليّ وعصا الخيزران تهتز بيده متحفزة لتقتاتُ من جلدي الذي يكسوا عظامي المنهكة..
كان يتحفز كضابط شرطة وجد من يبحث عنه بعد أن كد العمر في البحث والتعقُب، وتعويضا لخيبة لطالما أمتدت وأستمرت.. ضابط أعيته الحيلة وخابت الوسيلة في القبض على من يبحث عنه سنوات طوال، وعندما وجده أراد أن ينتقم لسابق فشل ذريع وخيبة كبيرة.. كان يهز الخيزران في وجهي كأنه ظفر بخصم لدود انتظره دهرا، وتحيَّن زمناً لمنازلته وسحقه.. أراد تحديه أن ينتصر على نحو ساحق وماحق.. أراد تحديه أن يلحق بي هزيمة منكرة..
كنت منهكا ونحيلا وخائر القوى.. لاحول لي ولا قوة أمام مجهول ينتظرني لا أدري قدره، وكيف سيكون!! كلما أرجوه في سرّي وكتماني أن يكون أقل مما هو مُهلك ومميت، فيما الاستاذ يتبدّى لي مكظوما بالغيظ الشديد، والغل الذي يأكل صاحبه.. متحفزا جدا، ولا يدري من أين يبدا بسحقي..
فكّر برهة، ثم أختار بعناية أربعة من أشد تلاميذه غلظة وقوة، وأمرهم أن يمسكوني ويسقطوني أرضاً، ويرفعون قدماي مضمومتين إلى الأعلى، ويمنعونني من الحراك..
قلعوني من الأرض كنبتة صغيرة منهكة.. صار رأسي مضغوطا عليه للأسفل، وقدماي مرفوعتين إلى الأعلى.. أحسست أن فارق الكتلة بيننا يكسر المقارنة.. إنهم يفرطون في استخدام القوة إلى حد لم أكن أتخيله.. إفراط عبثي مغالى وساحق.. لا مقارنة بين ضآلتي وأربعة بدو لي أعفاطا، وصرت بينهم متلاشيا، أو أكاد أن أتلاشى بينهم بالتكوّم والضغط.. تلاشيت باكتظاظهم المزدحم.. كانوا يفعلوا ما يفعلوه وهم بذروة الانتشاء، والبرهنة على الولاء الجموح..
شلوا يداي وحركات جسدي بأيديهم الكثيرة، وأناخ ثقلهم على كاهلي الصغير والمنهك.. وضع بعضهم ركبهم الحجرية على بطني الخاوية، وصدري المكظوم والمختنق.. كادوا أن يمنعوني من التنفس.. أحسست أن الهواء الذي أسرقه من زحامهم صعب وقليل.. ما أبخلهم حتى على الهواء الذي أتنفسه!! كأنهم مرابين يمنحوني الهواء مُقسطا ومقترا.. بخل بلغ أوجُّه..
هوت لسعات الخيزران بشدة على قاع قدماي، كأنها حمم من جهنم صبها الله على بطن أقدامي الدامية الأظافر.. إنها ليست عقوبة (الفلكة) المعتادة، ولكنها (فلكة) من جحيم.. تعدَّت شدتها كل معقول، بل وأضعاف ما طال أكثر التلاميذ إهمالا وتقصيرا وغباء في المدرسة.. لقد اسميت ذلك اليوم بعد زمن “يوم في الجحيم”..
انتهوا من وليمتهم المرعبة على جسدي الضئيل.. تورمت قدماي.. احتقانات حمراء تكاد تهر دما.. نفطا بيضاء تتشكل في قاعهما وجوانبهما.. قدماي التي يفترض أن تحملاني إلى البيت صرت أنا من يحملها، وكأنني أحمل جبل أثقل من جبل “أُحد”..
أمشي عاثرا الخطى.. وأحيانا أسحب جسدي كالكسيح.. أسير عشرين خطوة أو دونها ثم أستريح قليلا لأعاود السير لعشرين أخرى.. كانت رحلتي تلك أشبه برحلة في الجحيم.. المتر والاثنين بات له معنى في هذا المسير الثقيل.. عشرين بعشرين دواليك، إلى أن وصلت للبيت بعد طلوع الروح..
كنت أظن أن العقاب قد أنتهى عند هذا الحد، وخصوصا أن الأستاذ قد أبلغ والدي أنه قد عاقبني بما أستحق وفيه الكفاية، غير أن والدي الذي كنت آمل أن يخفف عنِّي ما أوقعه الأستاذ من عقاب، وجدته أكثر أفراطا بالعقاب من الاستاذ.. بدا حالي واستجارتي بأبي (كالمستجير من الرمضاء بالنار).
***
وصلتُ إلى باب دارنا، وكان أبي في الانتظار.. أقترب منّي بخطوات متهادية.. ظننت أن الله رحمني، وساق في أبي معجزة تغاير ما أعتاد عليه، أو ربما ظننت أن شفقة ما قد اجتاحته أو تفجرت داخله، وخصوصا أنه شاهدني حسيرا، أو أسير متعثرا بخطواتي المعاقة، لا أقوى على حمل قدماي إلا بصعوبة ومشقة بالغه، ولكنه باغتني بحركة لم تكن ببالي وحسباني..
فرج رجليه وخفضها كثيرا.. أنحنت قامته إلى دون قامتي.. وضع كتفه الأيمن في أعلى منتصف قامتي، ونهض لأجد نفسي معتولا، ومعطوفا على ظهرة كحرف الواو المقلوب، ويداه ممسكتان بالساقين، وقدماي ترمحان كعصفور مذبوح أمام وجهه، وهي مقلوبة ومرفوعة قليلا إلى أعلى من قامته، ورأسي متدلي على ظهره كخروف مذبوح..
حركة أبي بالنسبة لي كانت مباغتة وصادمة.. اجتاحتني نوبة هلع، لاسيما أنني لا أدري ماذا سيفعل بي؟! وما عقد عليه عزمه؟! زاوية الاستدارة التي شهدتها بدت لي استدراه كونية لكل ما هو حولي.. صرت أرى الأشياء من وضعي مقلوبة رأسا على عقب، ومغايرا لما أعتاد الناس رؤيته!! أدركت أن هناك عقوبة جديدة أكثر وحشية تنتظرني، ولكن لا أعرف ما هي!!
كنت أصرخ بهلع فاجع ومتعاقب دون فاصل، فيما أبي ذهب بي نحو شجرة السدر القريبة من باب دارنا، وكان الحبل عليها معدا وجاهزا لتعليقي.. ربط قدماي بالحبل، ورفعني إلى فرع الشجرة، ورأسي متدليا إلى الأسفل.. كانت هيئتي كشاة مذبوحة عُلِّقت للسلخ أو الخلس..
كنت أصرخ وأستغيث ببكاء صارخ يفلق الحجارة، لعل منجد قريب يهرع إلى أبي وينجدني مما أنا فيه، إلا أن لا منجد وجدت ولا مغيث هرع.. الكبار كانوا يشاهدوا ما يحدث من سطوح بيوتهم وأبوابها مغلقة بصمت القبور، وربما طل البعض برؤوسهم من الطيقان والمفارج، فيما فاجئني أبي بالمزيد.. ضرب عنيف بعصى على ظهري وبطني وسيقاني، ولا من يهرع لإنقاذي.. كانت أمي في الجبل، وكان صراخي يشق السماء، ولسعات العصا تنهش في جسدي كضبع جائع ينهش في فريسته..
ربما بدا صراخي أشبه بإعلان مجاني، ودعوة للأطفال والنسوة ليشاهدوا المنظر الذي لم يألفوا ولم يعتادوا على مشاهدته حتى برأس العام أو العامين والثلاثة، بل لم يشاهدوا مثله في حياتهم من قبل.. بدا مشهدا عجيبا يسترعي المتابعة باهتمام، بل والحرص على عدم الغفلة أو افلات عيونهم للحظة منه.. مشهد لم تعتاد عليه قرانا مهما كان الابن متمردا وعاقا أو حتى مجنونا..
هرع بعض الأطفال إلى مكان قريب ليروا تفاصيل أكثر عن هذا المشهد الغريب الذي يشاهدونه للمرة الأولى.. كان الأطفال يشاهدوا المشهد وكأنه سينما يحضروها للمرة الأولى، وفلم يشاهدونه لأول مرة، ومجانا دون مقابل.. أما أنا فلا زال المشهد عالقا في ذاكرتي إلى اليوم، ولكن ومع ذلك لا أحمل لأبي اليوم إلا كثيرا من الحب والسماح..
بعد أن أفرغ ابي جام غضبه، ظللت معلقا على الشجرة حتى هرعت أمي من الجبل لنجدتي وفك وثاقي وجاءت بعد حين غير قصير..
اليوم أطراف الصراع تفعل بنا وبوطن مستباح أكثر من هذا بألف ضعف وضعف.. قسوة الأمس في جوهره كان بدافع التربية مهما كان الفعل خطأ ففي حسن النية عفوا وشفاعة، أما ظلم اليوم وقسوته فهو بدافع الأنانية المفرطة.. اليوم تآزر علينا فساد ونهب لا سابق له، وظلم وقسوة أكبر من المستحيل، ودول مدفوعة بفاحش أطماعها ومصالحها الأنانية والمغالية، وساديتها العابثة والمرعبة..
الجميع نالوا منّا ومن الوطن ما لم ينله سابق ولا لحق.. تكالب علينا أشرار العالم كلّهم، والبقية يتفرجون، وليس لنا أم تهرع من واد أو جبل لتوقف هذه الحرب الضروس، وهذا الحصار المميت، والنهب والفساد المهول، وهذا النزيف الطويل..
***
(5)
رغم القسوة.. أستاذ قدير
استاذي الأول هو الأستاذ المهاب علي أحمد سعد الذي فلكني بالخيزرانة حتى أدمت وتقرحت منه قدماي.. ربما نأخذ عليه أن أساليبه التربوية في عقاب تلاميذه كانت خاطئة أو مفرطة في الشدة والغلاظة، إلا أنه في الوجه الآخر نستطيع القول: “لو لم يكن هو، لن نكن نحن”.. كان حازما وصارما.. يجيد التدريس والإفهام.. لا يساوم بالدرس ولا ينتقص منه.. كان الاستاذ الذي يعلمنا بمفرده كل المواد.. وأكثر من هذا أنه بدأ بتعليمنا قبل أن توجد “المدرسة” التي أخذت تتشكل فصولها مع صموده واستمراره في تدريسنا دون تواني أو انقطاع..
البدايات شاقة، وبمشقة أستطاع تأسيس مدماك لصرح تعليمي يكاد يكون من عدم.. له الفضل الأول في انقاذنا من جهل غشوم، ماكنّا لنخرج من ديجوره وسراديبه لولاه.. جهل جثم على أهلنا وقرانا ردحا طويلا من الزمن.. لقد كان هذا الاستاذ بالنسبة لنا طالع السعد والحظ الحسن الذي أرانا النور، وهدانا إلى اعتاب بوابة العلم والمعرفة..
أستمر الأستاذ علي أحمد سعد في تدريسنا حتّى العام 1970م تقريبا قبل أن يغادرنا بعد سنوات من عطائه للعمل والإقامة في مدينة تعز.. ترك فراغا كبيرا سدّ مسده بعض من طلابه الأذكياء الأوائل الذين تولوا تدريسنا من بعده.. زرع وكان الحصاد المستحق..
ذهب عنّا وقد أسس صرحا تعليميا أعزّنا من جهل مطبق وأكيد.. أسس منهج متكامل من الصف الاول حتى الثالث الابتدائي.. تعلمنا على يديه أسس القراءة والكتابة والحساب والاجتماعيات والعلوم.. درس على يديه عدد كبير من الطلاب من أبناء القرى والمناطق القريبة والمجاورة وحتى بعض المناطق والقرى البعيدة.. لقد كان أشبه بالطائر الذي رعى صغاره حتى صاروا يقوون على الطيران والتحليق عاليا..
ومن الطريف أنه ترك لأغلبنا أيضا ألقابا طغت على أسماءنا لسنوات طويلة، ولازلنا نذكر بعضها، بل لازال بعضها حيا إلى اليوم مثل: الطُنيز وحوفر والمعرد والكبريت والبلبل وقرادي والمتيت والزناط والنجاشي والمُقرور والملحوس والطُبيله والزيدي ومليط.. صرنا ننسي الأسماء ونتذكر الألقاب.. لا ندري ما سبب تلك التسميات التي أطلقها، وعلى أي أساس كان يختارها ويطلقها علينا، غير أن الأطرف أن بعضها عاش معنا، ورحل بعضنا وبقت ألقابه حية وشاخصه حتّى بعد الرحيل.. بقي بعضها إلى اليوم، وأمتد بعضها إلى نسلهم..
على الرغم من قسوة هذا الأستاذ القدير، إلا أنه يعود له الفضل في تعليمنا الأول، وبالطريقة الحديثة التي كان عمادها الدفتر والقلم.. القراءة والإملاء والحساب والعلوم والأدب.. جاءنا في لحظة كنَّا فيها بأمس الحاجة للتعليم الغائب عنّا.. لولاه ربما كان الجهل قد عاث فينا، وأطبق علينا كلتا يديه، واستبد بنا العمر كله.. لولاه ربما لما وصلت ومُجايلي لأبسط وظيفة عامة في الدولة.. لولاه لكان الكثيرون منا لا يجيدون أكثر من الشقاء الثقيل ورعي الغنم..
ذهب وترك لنا أساساً من معرفة نبنى عليها علما في قادم السنين والأيام.. ذهب ولم يذهب علمه وتعليمه وجميل معروفه.. غادرنا وترك مكتبة صغيرة وصندوقاً أسوداً كان يجلس خلفه بعطاء المعلم والاستاذ الجليل..
ورثنا بعضاً من كتيبات كانت مخزونة في دولابه.. أتذكر أنني أخذت كتيباً عنوانه ” أبعاد الثورة اليمنية” لعبد الرحمن البيضاني.. أذكر أنني حفظت حينها منه عدد من الصفحات عن ظهر قلب رغم صغر سني، وعندما كنت أستعرض ما حفظت منه سمعني أحد المدرسين أو الطلبة الأقدمين الذين كانوا يدرسون والذي اندهش لحفظي بعض فقرات صفحاته غيبا..
أوعدني هذا الأستاذ أنه سيحضر لي قصة (النمر الأسود)، قصة خاصة بالأطفال وكنت متلهفاً لقراءتها أيما تلهف، حتى أحضرها لي في اليوم الثالث من وعده، ربما كانت أول هدية أتلقاها في حياتي..
لم أكن اعرف أنه يجب علي أن أقرأها حتى النهاية لألمُ بوقائعها كقصة.. اعتقدت أن المطلوب مني حفظها عن ظهر قلب كما فعلت في بعض صفحات كتيب البيضاني، فصعب عليّ حفظها، وفشلت بحفظ بعض من صفحاتها، وتحولت فرحتي إلى فشل وبعض تعاسة.. بت أتهرب من الأستاذ الذي أهداني إياها حتى لا ابدو أنني غير جدير بما اهداني إياه، ولم أكن ادرك أن حفظها غير مطلوب.
***
(6)
الصف الخامس في الجنوب
في مدرسة “الوحدة” أتممت الصف الرابع، وفي مستهل الصف الخامس تركت مدرسة الوحدة في قريتي “شرار” الشمالية، وانتقلت للدراسة فيما كنّا نسميه الشطر الجنوبي من الوطن الحبيب، في مدرسة مفتوحة أبوابها للطلاب القادمين من المناطق المجاورة في الشمال.
كانت مدرسة “شعب” أفضل من مدرستنا بأضعاف، ومن كل النواحي تقريبا.. المشكلة كانت لدينا فقط في المسافة الطويلة بين قريتنا وهذه المدرسة..
كان عليّ أن أقطع كل يوم دراسي مسافة تصل إلى عشرة كيلو مترات في الذهاب ومثلها في الإياب.. يتوجب عليّ أن اقوم قبل الفجر، وأسافر كل يوم دراسي مشيا على الاقدام حتى أصل إلى المدرسة، وفي الإياب أيضا كان سفري مضني وجهيد.. مشقة يومية ثقيلة تأتي على حساب الاجتهاد والمثابرة والنتيجة العامة.. الانهاك اليومي كان يفتك بي، وينال ما قدر عليه من الجسد والروح والذاكرة..
كانت أظافر أصابع قدماي دائما ما تشكوا من ارتطامها بالحجارة كل غبش وصباح أسافر فيه.. ويتكرر الحال ظهرا عند الإياب.. أجر فيهما قدماي جرّا حينما يثقلها التعب المُنهك، أو يدركها الإرهاق الشديد..
في بعض الأحيان كان الارتطام بالحجارة يؤدي إلى أن يسيل الدم من مقدمة الأصابع وتحت الأظافر.. ينز في الصباح البارد من منابتها وحوافها.. وأحيانا أنكي الذي يحاول التماثل للشفاء، وأخرى تؤدي إلى خلع الأظافر بسبب قوة وكثرة الاصطدام بالحجارة.. أشعر بدوامة من العذاب والألم كل يوم أسافر فيه للدراسة، وأحيانا أتمرد ولا أصل إلى المدرسة، وأخرى أغادر فيها المدرسة قبل انتهاء الدوام بحصة أو حصتين..
كنتُ أشعر أن المسافة إلى المدرسة تطول، واستراحات الطريق ألتذ بها وأنا مرهق حد الإعياء.. أحس أن المشقة أكثر مما يحتملها جسدي المنهك وروحي المتعبة.. هذه المعاناة كانت تجعلني أشعر أن الأحجار هي من صارت تتربص بي، لا أنا من يصطدم بها.. كنت أتجنبها قدر المستطاع، وكانت هي تنال مني ما تستطيع، وتخلِّف لي كثيرا من الألم والوجع.. لازالت أظافر الاصبعين الكبيرتين في القدمين مشوهة إلى اليوم بسبب كثرة ارتطامها بالحجارة..
أتمرد بعض الأيام على المدرسة، فلا أصل إليها.. وبعض الأحيان يبدي أحد أقراني بمقترح ما نسميه “الهفسنة” أو “نهفسن” ونعني به عدم الذهاب إلى المدرسة، ثم نؤيده، ولم نصل إلي المدرسة.. كنّا نصل إلى رأس شعب، وبعض الأيام إلى العيادة الصحية في منطقة شعب، ثم نعود على مهل حتى ينقضي الوقت، ونعود إلى أهلنا في الوقت المعتاد لعودتنا، وفي أيام قليلة كنّا لا نتعدى “طرف الصحبي” ولكن نفعل هذا باختباء وحذر خشية من انكشاف أمرنا لأهلنا..
أحيانا نشتري سجائر “مارب” و”سبأ” و”يمن” من دكان محمد سيف الكائن قرب سوق الخميس،.. تلك السجائر كانت رخيصة ورديئة في نفس الوقت، ثم نتخذ محطات بعيدة في الطريق الطويل، ونشرب السجائر خفية.. كنا “نمورب” ونتمرد على الأهل والمدرسة، أو نمارس بعض التجريب و”الصياعة” سرا عن أهلنا وذوينا..
مادة الإنجليزي كانت دوما هي المادة الأخيرة في جدول الحصص الأسبوعية.. المدرس الذي يقوم بتدريسها كان طيباً للغاية، وفي نفس الوقت مُجيدا لمادته، ومتمكنا من تدريسها، ولكن ابتعاد المدرسة عن بيوتنا كان سبباً يحملنا في معظم الأحيان على العودة دون حضور الحصة الأخيرة، وهي حصة الانجليزي..
الانهاك اليومي المصحوب ببعض تسيب وتمرد أدَّى إلى فشلي بثلاث مواد دراسية نهاية العام، كان في صدارتها بالطبع مادة اللغة الإنجليزية.. كان مثل هذا الفشل غير مسبوق في دراستي السابقة؛ ولأن الفشل بثلاث مواد أو أقل منها يمنح النظام المدرسي للطالب فرصة إعادة امتحانها، تم إعادتي لامتحانات تلك المواد في الفرصة المتاحة نهاية العام، وتمكنت من النجاح بصعوبة، وما كنت لأنجح لولا الرجل الطيب الحاج محمود وهو من أبناء شعب الأوسط..
كان في منطقة شعب أصدقاء لوالدي هم الحاج محمود حسن وإخوانه علي حسن وصالح حسن.. ثلاثة إخوان يعيشون في منزل واحد، ومعهم أكثر من ثلاثين نسمة.. كانوا مثال للأخوة والطيبة والمودة وسعة الصدر وطول البال.. كانوا في منتهى الانسجام والتسامح، وقلوبهم أبيض من بياض السحاب..
كنت أدرس مع بعض أبنائهم في نفس المدرسة.. أذكر أنني قضيت مقيما لديهم شهر أو شهرين بعد إلحاح شديد من قبل الإخوان الثلاثة على والدي بأن أقيم لديهم وأجتاز الامتحان نهاية العام وربما فعلوا نفس الشيء معي في امتحانات الإعادة.. كانوا يشفقون علىّ من تعب أعيشه كل يوم.. لطالما استنزفت روحي مسافة الذهاب والإياب.. لولا الحاج محمود وإخوانه لما تجاوزت ذلك العام الدراسي بنجاح..
يا الله كم هؤلاء الناس طيبين.. بعد أن قُتل أخي علي وتشرد والدي، أقام الوالد عندهم سنوات في دكانهم الذي كان يحاذي الطريق.. احتضنوه خلالها دون أن يجرحوه يوما أو يتململوا من ضيف أطال الإقامة، بل كانوا يفيضون طبية ومودة تكفي لأن تملى هذه الدنيا وتزيد.. ما أطيبهم يا الله.. لقد صنعوا لنا من الجميل والمعروف ما ندان لهم كل العمر أبناء وأحفاد..
***
(7)
السادس ابتدائي
صرت منقولا من الصف الخامس إلى السادس.. لا معنى لدراستك إن لم تجتز الصف السادس.. اجتيازك للصف السادس هو الأهم في الست السنوات الأولى من التعليم الابتدائي.. نجاحك في السادس ابتدائي يعني تتويج لحصيلة جهد ست سنوات دراسية..
الصف السادس امتحانه وزاري.. إعداد أسئلة الامتحانات وتصحيحها أو البت في إجاباتها لا دخل ولا شأن فيه للمدرسة أو للمعلمين فيها أو لمديرها.. الأسئلة تأتي من وزارة التربية والتعليم في صنعاء مظروفه ومغلقة لا يعرفها أحد غير من يعدّها في الوزارة، وكذا تصحيح الإجابات يكون حكرا على المختصين بالتصحيح في الوزارة أيضا أو من يمثلونها في المحافظات..
تجاوزك للصف السادس معناه أنك أتممت المرحلة الابتدائية، وانتقلت إلى بداية مرحلة الإعدادية.. اتمام الابتدائية يعني أنك تصنع الفارق الأول في مسار دراستك.. إنه فارق الانتقال من مرحلة أدنى لا تستطيع من دونها الولوج في مرحلة أخرى أكثر شأنا وأهمية.. اكمال المرحلة الابتدائية معناه أنك تسجل انتصارك الأول على جهلك في معركتك الأولى التي تستغرق من عمرك ست سنوات طوال، ومن ثم الإعداد لمرحلة انتصار أخرى تستمر ثلاث سنوات، وهي مرحلة الإعدادية..
شهادة صف سادس تعني لي الشهادة الأهم في الست سنوات من التعليم، وبدونها ستحل الخيبة التي تهدد مستقبلي التعليمي بالضياع والخسران.. ولكن لا يوجد صف سادس في مدرسة الوحدة، ولا يوجد صف سادس في مدرسة شعب، ولا ماء ولا زاد لرحلة ورحال إلى الصين.. لا وسيلة ولا حيلة للوصول.. فكانت وجهتي هذه المرّة إلى مدرسة “المعرفة” في “ثوجان” مسقط رأس مرشد الإخوان ياسين عبدالعزيز.
كان عليّ أن أقطع مسافة قرابة الثلاثة كيلومترات حتى أصل إلى أسفل الجبل الذي يتعين أن أجتازه بالصعود إلى شاهقه، ثم أنزل منه من الاتجاه الآخر، ثم أقطع بضعة كيلومترات أخرى لأصل إلى تلك المدرسة في “ثوجان”، بعد عناء ومشقة، ثم يكون الإياب بإرهاق أكثر، وضنك أشد..
كنت في أول صعود الجبل ابدو كالطفل الذي يريد أن يمتطي جملا يقف على قوائمه.. الفارق بين قامتي وقامته تبدو أشبه بالمستحيل، ولكن لا خيار أمامي إن أردت إنجاز المرحلة إلا أن أكسر تحدّي هذا الجبل كل يوم ذهابا وإيابا.. لابد من الوصول إلى المدرسة والعودة إلى البيت ست أيام في الأسبوع..
كان يذرعني الإنهاك كل يوم في الصعود والهبوط.. يجتاحني التعب طولا وعرضا مع كل يوم دراسي.. الامتحان وزاري، والسنة مفصلية، ولا مجال للتهاون، ولابد أن أقطع مسافة ربما تصل إلى الثمانية كيلومتر ذهابا، ومثلها في الإياب..
لابد أن أوطّن نفسي بإصرار عنيد يستبسل في وجه كل المحبطات.. خمس سنوات طوال من الدراسة والجهد المبذول ستبدو باليأس مهدرة.. لن أسمح لليأس أن يهد عزيمتي، ومعها خمس سنوات خلت من الجهد والمعاناة الأشد.. لن أسمح للإحباط أن يتسلل إلى روحي المتعبة.. عليك بالجَلَد.. التعب أولى بالاختيار عندما يكون البديل أن يستبد بك الجهل، ويضيع منك مستقبلا تنشده.. ربما بهذا المعنى حدثت نفسي..
عندما أصل إلى شاهق الجبل كنت أرى المناظر البعيدة التي تحول موانع التضاريس أن تراها من أسفله أو من الأودية التي صرت أراها من شاهقه فجاج وقيعان سحيقة.. من القمة ترى الطبيعة شرقا وغربا على نحو مختلف.. ترى ما لا تراه من أسفله.. كان اجتياز الجبل يحاكي كل يوم الانتقال الدراسي الذي أنشده..
الأشياء من على ظهر الجمل تراها غير ما تراها وأنت تسير على قدميك بحذاء مهتري، وربما من غير حذاء.. الاستراحة في نجد الجبل استمتاع بعد إعياء الصعود.. حدِّج بنظرك وجول شرقا وغربا من شاهقه.. في قمة الجبل تبدو كالصقر وأنت تحدّق وتمعن النظر في البعيد والقريب، وفي التفاصيل التي باتت تحت قامتك.. في القمة تبدو مكللا بمعاليك، وجلال قدرك، وفخامة هيبتك..
الشعور الذي تمنحك إياه القمة آسر وجميل.. النظر من القمة خرافي وممتع، حتى وإن وصلت إليها وأنت مهدود الحيل.. فسحة قليلة تعيد لك كثير من نشاطك وطاقتك وقوتك طالما ما تروم يستحق الصعود والوصول..
طلبت إدارة المدرسة من كل طالب في الصف السادس صور شخصية للملف والاستمارة والشهادة، وكان الطلب عصيا علينا حيث لا توجد معامل تصوير في قرانا ومناطقنا، ولا حتى في “شعب” و”طور الباحة”.. أقرب مكان فيه معمل تصوير كان في “الراهده”..
أبي قلق أن أذهب للتصوير في “الراهده”.. هروب أخي من صنعاء عقب أحداث أغسطس نهاية الستينات، والذي كان يومها برتبة نقيب على الأرجح، جعلت أبي يتوجس خيفة من اختطافي إن ذهبت إلى “الراهده” رغم صغر سني..
بعد تفكير طويل وتنسيق سمح لي والدي بمعية بعض الطلبة، وبعد الوصاية والعناية المسندة من والدي للأستاذ عبده أحمد طالب (الطالبي) سمح لي بالذهاب إلى “الراهده” للتصوير والعودة بسرعة دون تأخير، وتم الأمر دون أن يحدث لنا مكروه..
إجمالا كانت سنة مضنية، اجتزت بها مرحلة الابتدائية، وحصلت على نتيجة 302 من 500 درجة.. يومها رأيت في هذه النتيجة إنها جيدة ومرضية.. ثم واصلت دراسة الإعدادية ثلاث سنوات في مدرسة الشهيد نجيب بطور الباحة..
***
السلسلة السابعة.. يتبع
صفحة أحمد سيف حاشد على تويتر 2
حساب أحمد سيف حاشد على الفيسبوك
صفحة أحمد سيف حاشد على الفيسبوك
قناة أحمد سيف حاشد على التليجرام
مجموعة أحمد سيف حاشد على التليجرام
Ahmed Seif Hashed’s Facebook page
Ahmed Seif Hashed channel on telegram
Ahmed Seif Hashed group on telegram