مذكرات

(7) قادة وقوادين .. أحمد سيف حاشد

مذكراتي .. بعض من تفاصيل حياتي

(7)

قادة وقوادين

أحمد سيف حاشد

لستُ من يعجب بقائده بسهولة.. أزدري منافقة القادة إلى حد بعيد.. لا اتملق ولا أشهد الزور.. لست من يحب قائده من أول وهلة.. أعيد النظر والتقييم مرارا.. أمقت المتملقين والانتهازيين والوصولين.. لا أزجي المديح ولا أميل للإطراء، إلا بقدر ما يستحقه القائد، وما يثيره فيني من إعجاب ودهشة، وما لديه من مصداقية وتواضع ونكران ذات..

 

لا أشطح ولا أبالغ ولا أبحث في القائد عن الكمال، ولكنني أبحث عن الأفضل الذي أجد فيه استحقاق أن يكون نموذجي ومثالي في حدود الممكن لا المستحيل..

 

لا أبالغ في المثال الذي أبحث عنه.. أتفهم عيوب ونواقص البشر، وأعرف أن مقاربة الكمال أو المثال الخالص هو طلب أكبر من المستحيل، بل لا وجود له حتى وإن كان في صورة نبي أو ملاك..

 

لست عدميا فأنا أستطيع أو أحاول أن ألتمس الأعذار للآخرين، وأتفهم أسبابهم، وأحاول البحث حتى في الأشرار عن محاسن وفضائل وبقايا ضمير ربما لا يراها الكثيرون.. كل شيء يبدو لي نسبيا في هذا الوجود حتى الحقيقة بل والوجود ذاته.

***

 

ومع هذا نعيش اليوم ما هو أكثر سوء وردائه وكارثية.. يتم فرض الفاسدين علينا كقادة ورئاسة وإدارة.. يلقون بعقدهم وذاتيتهم ورغباتهم اللزجة في وجه نقاءنا وصدقنا وما نبحث عنه من عدالة.. يفرضون علينا بما يملكونه من سلطة وغلبة مخرجاتهم المنتنة، وفسادهم الأكثر نتانة، وجهلهم الأشد من الجهل نفسه..

 

يتم توجيه ما يملكوه من غلبة وصلاحيات مغتصبة لابتزازنا وإذلالنا بحقوقنا واستغلال حاجاتنا وعوزنا وفقرنا برغبة تحويلنا إلى قفازات ودُمى بلا وعي ولا إرادة ولا حياة، ثم دون خجل ولا حياء يقذفوننا بالباطل والادعاء المفتري أننا من نبتزهم.. يا لهول ما نعاني..

 

كل يوم وأنت تعيش حال متعفن كهذا الذي نعيشه، وفساد أشد فتكا من الوباء والحرب.. يحاصرك من كل صوب واتجاه.. يسد في وجهك أبواب الله وسبل الهرب والنجاة.. يغلق عليك كل المنافذ والطرق، ويثقل كاهلك بما هو أشد ثقلا من الجبال الرواسي، ولا يترك لك حيلة إلا وصيرها أمامك محال في محال.. حال كهذا وأنت تجمع أشتات صبرك من أقصايه، قليل ودونه أن تتخيل نفسك وأنت تأكل شعر رأسك وعانتك..

***

 

اليوم صار قوادين الفساد قادة.. والخلف أسوأ بعشرة أضعاف سابقة.. وبطولة الفساد جائحة.. لا يولّي الفاسد ويحميه إلا من هو أفسد وأكبر منه.. صار الفساد الكبير هو من يرسم السياسات ويفرضها ويمنهج مراحلها خطوة بخطوة.. بات الفساد حاكما ومُكرسا بإمعان أشد.. صار وسطا ومحيطا وبيئة..

 

كان الفساد يتهاوى إذا ما وجهتَ اليه سبابتك.. يرتعد إذا رميته برمش عينك.. أما اليوم فصار الفساد مهولا ومرعبا وعريض الاجتياح.. تيار جارف لا يُقاوم.. منظومة قوية محمية بالسلطة والغلبة والأمر الواقع..

 

صار للفساد قادة أفذاذ، وصارت السلطة كلها بعض من يديه.. أينما توجه وجهك تجد الفساد العريض فاغر فاه.. فك مفترس إن لم تأت إليه، هو يأتي إليك متوحشا على أربع.. الخياران أسوأ وأمر من بعض.. صار الفساد في هذه البلاد ابتلاء يشبه القدر..

 

منظومة الفساد هي من تأمر وتؤمّر، ولها كلمة الفصل في الصغيرة والكبيرة.. صار الفساد المهول في هذه البلاد المنكوبة به وبقادته، مطلق السلطة واليد والعنان.. استبداد وطغيان أكثر بطش وغلظة..

***

 

أكثر الذين أعجبت بهم في الكلية العسكرية، هو قائد الكلية أحمد صالح عليوه من محافظة شبوة.. وجدته قيادي فذ، وممتلئ، وصادق، وعلى مستوى عالي من الوعي والمسؤولية، ولا يعمد إلى فرض شخصيته إلا بوعيه وحنكته وتواضعه، وتميّزه، وما لديه من حكمة ومصداقية وشجاعة، وحيوية ونشاط وألق وجاذبية..

 

كان أحمد صالح عليوه قائد عسكريا وتربويا محنكاً.. يمتلك شخصية قوية وجذابة تخطف إعجابنا وحبنا الكبير.. دأب يغرس في أعماقنا الاعتزاز بالنفس والثقة والشجاعة وقوة الشخصية.. مازال صوته الجهوري حياً في مسمعي وهو يقول: “طالب اعتز بنفسك.. ارفع رأسك.. أنت قائد..” كنت معجباً به، بل وأرى أنه أجدر من يستحق أن يكون قائداً لجيش بلد تستحقه..

 

كان يمتلك قدرة قيادية فذة ومؤثرة، ويحظى باحترام وتقدير من يقودهم.. سمعت بعد سنوات أنهم أهملوه وحطموا ذلك القائد الفذ.. حطمه الفاشلون.. قالوا إنه أصيب بحالة نفسية، ثم رحل ليترك عالماً من الفاشلين.. آه يا بلد.. رجالك المخلصين والقادرين ينتهون إلى الجنون والضياع، أو إلى ركام وحطام فيما كثيرون من التافهين ومن لا يستحقون يعترشون عرشك وقد أستبدو وقادوك  إلى الحروب والضياع والمآسي العراض..

***

 

كانت فصيلتنا هي الأولى مشاة، إنها من قوام ثلاث فصائل مشاة، والمشرف على الفصيلة هو الملازم عبد الرقيب ثابت الذي يدربنا مادة التكتيك أيضا، والحائز على المرتبة الأولى في دفعته الثامنة.. أردت أن أكون مثله الأول في دفعتي العاشرة.. أعجبت به لأنه كان يميل للإقناع والإفهام، ولا يذهب إلى طرق القسوة المُذلة التي تهتك المشاعر وتنتقص من كرامة الإنسان كما هو الحال لدى بعض أقرانه، وذلك على حساب صناعة الوعي والرفع من شأنه..

 

اليوم هذا القائد لم أعد أسمع به، وإنما صرت أسمع عن قادة امعات دون وعي أو فكرة أو موقف أو ضمير أو انتماء للوطن.. قادة صغار أتباع منقادين آخر حسابات لديهم هو الوطن الذي نبحث عنه..

 

رفع الوعي هو الأمر الذي أتعلق به، وأقابله بتقدير واحترام .. الشخط والنخط والتعالي سلوك لا يروقني من الضباط، بل أشعر أن صاحبه يعاني من عقد نفسية ومركبات نقص عصيّة.. أحب تواضع القادة دون أن أنال من حزمهم الذي أتفهم ضرورته في الحياة العسكرية.. وعي القائد وحزمه الواعي هو من يأسرني، وليس الحزم المهلل بالثقوب والعور..

 

روحي الثائرة والمتمردة على كل سلطة مستبده تتغافل الوعي ورفع مستواه لا أستكين لها.. أتمرد على كل سلطة تتجاهلني، أو تقلل من شأني، أو تريد أن تلغيني، أو تستخف بعقلي، أو تصادر إرادتي وكينونتي.. القائد هو ذاك الذي يمارس الوعي ويرفع من شأنه، ويمتلك الصفات التي تؤهله وترفعه وتجعل منه قائدا بجدارة واستحقاق..

 

***

يتبع..

  • بعض طلاب فصائل المشاة الدفعة العاشرة الكلية العسكرية – عدن

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى