من الهامش الى المستنقع
برلماني يمني
أحمد سيف حاشد
بعد الوحدة وجدنا هامشاً ديمقراطياً ومع ذلك كان أيضاً في غير محل رضى، لأن أحلامنا كانت أكبر وأعظم.. انتكسنا وانتكست احلامنا بعد حرب 1994 ضاق حالنا وضاق الخناق.. ضاق الفضاء العام.. بدأ الهامش الديمقراطي المتواضع ينحسر دستوراً وقانوناُ وأكثر منه في الواقع.. قاومناه ولم نستسلم لمشيئته، وما أُريد له أن يكون.
في 16 يناير 2011 خرجنا محتجين وثائرين وحالمين بدولة مدنية حديثة وديمقراطية، وحاولنا تأكيد ما خرجنا من أجله في 11 فبراير 2011، غير أن ما أسميناها بثورة تم سرقتها أو اختطافها وإفراغها من محتواها ومضامينها وأستبدوا فيها علينا، وتم الاستئثار بكل شيء.. تم إقصاءنا على نحو متدرّج، إن لم يكن قد تم هذا الإقصاء فعلاً من أول يوم وجودنا في ساحة التغيير في صنعاء.. أردوا لنا أن نكون ديكوراً أو بيادقاً في رقعهم وملاعبهم؛ فلم نكن إلا كما نحن أحراراً في وجه الجميع.
سرقوا حُلمنا.. سرقوا كل شيء.. استولوا على السلطة وفسدوا وعاثوا ولاثُوا.. ظنّوا أن السلطة قد آلت إليهم إلى يوم يبعثون.. ذهبوا هم للمرحلة الأولى بنية وقصد بناء دولة الخلافة من خلال مرحلة إنتقالية وشراكة صورية متلاشية، وذهبنا نحن إلى ما كنّا قد خرجنا من أجله، وهو النضال من أجل هدفنا المعلن وهو بناء دولة مدنية حديثة وديمقراطية، وحرية سقفها السماء.. لم نستسلم ولم ننصاع وظلّينا نقاوم سلطة كانت أكثر ظلماً وفساداً وخُبثاً ومؤامرة.
***
ثم أسسنا حملة “ثورة ضد الفساد” أنظم إليها لاحقاً جماعة أنصار الله “الحوثيين”، وكانت شراكة الجميع فيها تحت عنوان وشعار “ثورة ضد الفساد” وكان هدفنا المعلن هو بناء دولة مدنية حديثة وديمقراطية، وعندما اكتشفنا أن شريكنا كان تمساحاً، وأن دموعه كانت كاذبة، فضّينا شراكتنا به، وكان هذا تحديداً في تاريخ 4 أغسطس 2014 أي قبل ٢١ سبتمر، وقبل إتفاق سلم وشراكة الأحزاب، والتي تمت تحت عنوان الشراكة الوطنية، ولم نكن منها، ولازال حالنا كذلك، فيما هم وساستهم وأحوالهم وأفعالهم ذهبت إلى ما لا يخطر على بال.
استمرينا نحن في المقاومة والنضال ضد جميع الفاسدين والمستبدين ولصوص الثورات، ونناضل من أجل هدف وحلم بناء الدولة المدنية الحديثة والديمقراطية؛ فيما هم ذهبوا لإنجاز هدفهم الغير معلن في 21 سبتمبر 2014 بالتوجه حثيثاً نحو بناء سلطة الولاية التي تبدّت شيئاً فشيئاً مع كل تمكين بعد تسلل ومخاتلة.. لم نكن نتصور أن هناك من يحمل تقياه بين ضلوعه وخفاه، ويضمر لنا الشر وفساد طوية، فيما أحزاب السلم والشراكة ذهبت إلى أبعد من ذلك في إتفاق معلن أنتهى بالمبادرة الخليجية، فيما كنّا نحن ضد هذا وذاك.
استمرينا نحن في مشروعنا النضالي المعلن، فيما ذهبوا هم إلى السلطة ليحكموا متقمصين صفة المنقذين، وظن بعضهم بعد إستفراد وحين إن التاريخ قد آل إليهم، وإنهم صاروا مسك ختامه، دون أن يعلموا إن التاريخ ماكر، ويمكر بالواثقين من أنفسهم بدوام الحال، ومن يعتقد أنهم تملّكوه، أو أنه قد قد صار طوع أيديهم والبنان؛ فكان ما كان والقادم ما زال مُحدقاً ومُهلك.
لم نكل ولم نمل.. ظلّت أحلامنا كبيرة كُبر المجرّة، فيما جميع من انتصروا على الوطن أو مزقّوه ظلوا يصغرون، حتّى صاروا مجتمعين أصغر من حبة رمل واحده في وطن مازلنا نبحث عنه، فيما بعضهم ذهبوا للبحث عن الغنيمة بدلا من وطن كانوا يتشدقون به؛ فصيّروه أرباً ومزقاً.
***
صرخة الولادة لم تعد كما كانت بشارة ميلاد، بل صيّروها إعلاناً للموت والفقدان والغياب الطويل.. أعدّوا قبراً جديداً لكل ولادة.. كان الحال في الأمس مرمود العين.. فصيروه أعمى العينين، مفقود الوجه، منهوب البطن، حسيراً بلا قدمين ولا يدين، في نفق تتزاحف فيه العتمة، ويكتظ فيه الظلام الكثيف..
بات المفقود أكثر من بقاياه.. والنفق لا منفد فيه ولا باب.. سرقوا الضوء وسرقوا الوطن، وساروا به عجلين نحو التلاشي والزوال.. جميعهم يتكايدون ويدّعي كل فريق منهم أنه حرر وأنتصر، على رقعة باتوا يحتضرون، بل ويتعفنون فيها.
صاروا اليوم مغموسين في أوحالهم وأوحال غيرهم.. صيروا شعبهم غنائم حرب لتجار الحروب وأربابهم.. صيروه مجهولاً بلا وجه ولا عيون ولا أطراف.. صيروا ملايينه تموت جوعاً ومجاعة ومرض ومحاطب حرب.
صار بعضهم أمراء حرب، وصيروا شعبهم فرائس وطرائد سهلة لتجار السوق السوداء، ولفيف من التافهين والمنتفعين والجشعين.. تركوا شعبهم بلا عدل ولا قانون ولا لحاف.. كل شيء بات مستباحاً من الرجلين إلى الفخذين إلى النهدين إلى الردفين إلى الصدغين إلى رأس الدستور أبو القوانين.
***
“اليمن السعيدة” نتفوا أهدابها المرسلة.. نزعوا جفونها المسبلة.. سحقوا أناملها التي ترقص على النأي والأوتار، وتجلب المدى البعيد الذي يذوب على رقصاتها وأنغامها كقطعة “إيسكريم”.
مزّقوا حنجرة النأي الحزين بعدوانية متوحّشة.. مزّقوا أوتار العود المشبعة بالنغم، ومعها مزقوا نياط قلبها الراقص والعاشق للحياة.. حطموا النفوس والأحلام، وصيروها محاطباً وقراميداً، وأحرقوها لتدفئة أيامهم الباردة، والهرولة نحو مجاهل الماضي المتخلف وأدغاله المتوحشة.
***
سملوا عيونها العاشقة، وجوّفوها، وصنعوا منها متافل لتفاهاتهم التي باتت بهم متعفنة.. خاصموا الفن وحطموا الأعواد، ومزّقوا الأوتار الملتاعة بالحب والعشق والحنين.. ذنبها إنها تشجينا وتطربنا وتأنسنّا.. تدعونا إلى الحب، وتخفف عنّا العناء والحزن والبعاد وآلام الفراق القاتلة.
ذنبها إنها تسافر بنا أنغامها إلى ممالك الحب ودنيا الفرح والجمال.. إنها تشغف القلب، وتجعل الروح تسافر إلى الفضاءات الفسيحة والسموات العلى.. هشّموا وجه الحياة الجميلة، كما يهشم العنف الفارط مرآة كنا نرى فيها كل يوم وجهاً من حقيقتنا أمام أنفسنا.. أمّا الوجوه الخبيثة فنرى تفاصيلها في تلك المرايا المُهشّمة.
***
العمر يذوى ويمضى أسيفاً، وفي حناياه كثير من الحنين وذكريات الزمن الجميل.. وفي داخلي خبايا وبوح كثير عتقته السنين الطوال في مخابئها العميقة، تنتظر زمن سيأتي لعله أجمل، فمضى العمر في الرحيل.. أزف العمر ونزف، وجاء هذا العهد الموات الذي ما كان بخاطر أو بحسبان.
أما خيانات الوطن فاليوم تزاحمت وتباخست عروضها، والأيام أقفرت وتصحّرت ببؤسها، والخراب حل نزيلاً كقدر لا يُرد، والقبح المتعرّي بالدمامة رقص على بواقي الجسد، وأعتلى وأعترش الفُسح والأمكنة.
***
مرض مهووس بالأخلاق وبالمرأة.. يتحول في هذا العهد العاهة إلى شرطة آداب.. تتعقب أنفاس الناس.. تعربد وتتغطرس باسم الله.. لا يجرؤا أحد أن يسألها.. شرطة فكر غلسة منفوخة بالوهم الداجي والليل الشاتي.. حارسة للدين وحارسة للفكر وللأخلاق.. في أرضه تُغتصب سلطات الرب.. وهي تنوب وجوده وتحرس دينه.. تفتش طوايا النفس وخباياها، وما تخفيه النية، وما في خائنة الأعين، وما تخفيه صدور الناس من وسواس خنّاس.
***
قرروا أن قوس قزح يجب أن يشنق.. واللون الأحمر يجب أن يُصلب أو يُمحق.. وعيد الحب يجب أن يُسحل على الإسفلت الأسود.. شرطة آداب لا تعرف من الألوان غير الأبيض والأسود.
شرطة تقوم قيامتها إن اجتمع رجل وامرأة على مأدبة غداء، أو حتّي في “كافيه” لشرب القهوة.. تغلقه بأمر أشد صرامه.. تغلقه وتنحس صاحبه وتقطع رزقه.. تجعله يندب حظه بقية عمره.
***
إعدام الراتب مشجبه العدوان، وهم أبراج وخزائن مال.. أتسع الخرق على الراقع.. صار الخرق لا يرقعه الألف ولا المليون.. فساد كالسيل العارم، و”الجمعة هي الجمعة”، والمشجب نفسه يتكرر “مش وقته”.. العمر يمضي هدراً.. التمكين يوغل في الجسد المُنهك حتّى يقبض روحه.
الحق لهم، وهم الحق.. الحق لديهم واحد لا يتعدد.. ضاع الحق وهلك الشعب ومات.. وهم “الخطبة هي الخطبة” والمشجب نفسه يتكرر، إلا فساد الأخلاق حق عليه القمع، وحق عليه حكم الإعدام.
قالوا: تأكدنا بالقاطع أن لا نصر دونه، ولا نصر إلا به.
قالوا: فساد الأرض إعلانات المتجر وصالات العرض.. كل فتاة سافرة الوجه، متعرّية الأيدي، كاشفة الرأس.. أحزمة الخصر فساد وإثارة، والدُمى تفتقد الحشمة.. اختلاط الجنسين فتنة كبرى.. الكل دخيل جاء من بلاد الكفرة للغزو من الداخل، حرب ملمسها الناعم، أخطر من حرب النار.
قالوا: فساد ناعم أعاق النصر في جبهات الحرب.. نصر كان قد وضع قدميه على الأعتاب، ويده كانت تدق الباب.. جماعة “ثورية” باتت بتوحش داعش، وسلفية أكثر من طالبان.
***
شَعرِها يعبق حرية.. يشتاق السفر بعيداً.. ملتاعاً وملهوفاً كالريح المحبوسة في سرداب، وتتوق للقاء حبيب أثقله البعد وضريم الوجد.. العطر الضوّاع محبوساً في قنينة.. الشعر المحبوس والمعقود برباط الخيل فك رباطه.. اطلق الخيل صهيله.. خرج الشَعر المحبوس من محبسه إلى واجهة الكون.. فزعموا أنه يريد إغواء الكون وإفساده.
زعموا أن شَعِرها الطائر يتحدّى الحشمة.. يُفسد اخلاق الناس.. يثور ويتمرد على نواميس وشرائع آدم.. يتحدّى قانون العيب، وينازل دين الكهنوت.
***
حرقوا أحزمة ورباط الخصر، وعباءات زعموا إنها تثير الجنس.. تدعو للغواية وتثير الشهوات الملتحية.. تحت لحاها الكبت الفارط، ونتوءات الفكر الشاذ، وعُقد الوعي الفاسد.. غياب سوية وفساد طوية.
دُمى كاشفة عن ساقيها وأعلى الصدر.. تتسل يده الملعونة من بين الساقين.. يزيح عنها سترتها من تحت السرة.. تشتعل فيه عُقد الحرمان من رمقة عين.. يسرق نظره ما بين الفخذين.. ثم يقرر وينتقم لعاهته السوداء، عاهته باتت تتجول في الأسواق.. عاهته بات سلطة تمشي على قدمين.
***
لا يطيقوا رؤية خصلة شعر تتمرد، أو تخرج شاردة من كومة عُصبتها المحبوسة تحت غطاء الرأس.. مكافحة الشعر الطائر جهاد أعظم.. يأتي بالنصر وبالسؤدد.
في عهد الكهنة وحراس المعبد مساحيق تجميل الوجه فعل فاضح يلزمه الردع الصارم.. تُشنق كل ضفيرة خرجت من غير غطاء.. كل جديلة شعر تشتاق أو تلتاع حنين، أو تميل على الوجه الفاتن فتنة.. الفتنة تؤخر نصرا كان طي اليد.
***
حُرّاس الفضيلة والمعبد.. الناهون عن المُنكر.. العاشقون لظُلمتهم.. طَلُوا بالأسود صور يتعرّى فيها الوجه، وتاج الرأس، وحتّى الأنامل والأطراف.. تصعقهم وتحشد غيرتهم أنملة تتعرّى لفتاة أو طفلة لم تبلغ بعد.
المرأة يلزمها البيت.. تُخلق وتموتُ في محبسها الداجي.. وإن خرجت من محبسها يلزمها أن تكون غراباً، أو خيمة ليل.. تتدحرج في مشيتها وتجر وراها تاريخاً أسود من قهر وإذلال المرأة.. حراس فضيلة بوعي مشبع بعُقد المرأة، والنُقص المُرعب والمتوحش.. أين كان هذا القبح الباذخ مختبئاً يا رب؟!!
***
تشاركوا وتمالوا مع بعضهم البعض.. قطعوا الراتب.. بخل البعض بصدقه اسمها نصفه.. نشروا الفقر المُدقع في بيوت الناس.. اكلوا الصدقات ومعونات العالم، واشترك العالم بفساد النصف.. فرضوا جبايات ما أنزل فيها الله من سلطان.. قطعوا أرزاق وحليب الأطفال.. سدوا في وجه الفقراء سبل الرزق وكل الأبواب إلا باب اسموه الجبهات.
قلعوا أشجار البن ونشروا اشجار القات.. نشروا عدسات وشاشات الرصد.. زرعوا أشواك الطلح في وادينا وقيلات مجالسنا.. زرعوا البصاصين في كل مكان.
التعليم مُدمّر، وعلينا أيضاً أن ندفع مالاً.. الصحة لمن يملك مالاً.. والسوق السوداء تنهشنا في كل مكان.. ألقوا علينا بفساد لا يحتمله شعب أو أرض في العالم.. ثم ذهب البعض يبحث عن الحشمة والآداب.. ما هذا العُري الفاضح يا سادة؟!
***
الاختلاط خطر أكبر.. التبرج فتنة.. الظلام خيمة حشمة.. الغناء حرام.. المرأة عورة.. مصافحة المرأة مفسدة كبرى.. عطر المرأة على القوم فيه من الوزر عظيم..!!
ماذا أبقيتم للوهابية؟!!
ماذا أبقيتم لطلبان وابن عثيمين يا أهل القرآن؟!!
***