طيران بلا اجنحة .. فرار وقت صلاة المغرب “محدث”
برلماني يمني
أحمد سيف حاشد
كانت تتكاثر الأسباب التي تدفعني للفرار من أبي.. لم أعد أذكر كثير منها، ولكن في جلّها ترجع إلى شدته وقسوته، وما يزيدها تعقيداً ما يتبعها من انفعالات، أو ردود أفعال، تؤدّي إلى مزيدٍ من تفاقم المشكلة، وإفساد الحال، ومعه “تزيد الطين بله”.
أحياناً لا يخلو واحد منّا أو كلانا من ارتكاب حماقة في وجه الأخر، ربما بسبب ضغوطات الحياة، أو التسرع على حساب التريث والأناءة، أو ضيق صدر احدنا بالآخر، أو بسبب لحظة حرجة أشتد ضيقها علينا، وغيرها من الأسباب، حتّى أجد نفسي في بعض الأحيان أتخذ قراري بمغامرة أو مقامرة، لا تخلو من عناد، وعدم اكتراث بنتائجه وتبعاته.
في الواقعة التي أنا بصددها هنا، لم أعد أذكر أسبابها.. ما أذكره هو أن هروبي كان وقت صلاة المغرب، حيث قررتُ الفرار، دون أن أعرف إلى أين..!! وأين سأبيت ليلتي الأولى؟! وأين سينتهي بي الرحال؟!! كان الأهم في تفكيري هو إفلاتي أولاً من قبضة أبي، والحيلولة دون اللحاق بي حال فراري، وأن لا تدركني قبضته، ثم بعدها “لكل حادث حديث”.
لم يعد منزلا جدي وأخوالي ملاذاً أركن إليه، فأبي سوف يستعيدني بسهولة من غير موافقتي ورضاي، وسينطبق على حالي المثل: “كأنك يا بو زيد ما غزيت”. كما أنني صرتُ حساساً حيال خيار اللجوء إليهم بعد تكرار، ولا أريد أن اتسبب لهم بحرج أو امتعاض، وقد بتُّ أشعر بثقلي عليهم، وربما تسلل شيء من إحساس إلى نفسي لا يخلو من فتور أهل الدار حال قدومي إليهم هارباً من أبي، وفي كل حال بتُّ أدرك أن والدي سوف يصرُّ على استعادتي منهم دون تأخير، وربما أعود معتولاً بإذني كما حدث في مرة سابقة.
إضافة إلى هذا وذاك كنت أريد أبي أن يبحث عنّي بمشقّة أكبر دون أن يجدني، أو يعرف لي وجهة أو مستقر.. أردتُ معاقبته بطريقة ما، وفي حدود ما هو ممكن ومتاح.. اريده أن يعيش بعض من القلق والشعور بالندم إن استطعت، ولن يكون هذا إلا بفرار إلى مكانٍ مختلف، عمّا أعتدتُ عليه.. لا أريد أبي يعرف وجهتي أو إلى أين سأذهب، وأين سيكون المبيت.. أريد أن أضع في تفكيره احتمالية أن تؤدّي قسوته إلى فقداني، أو إلى مجهول أو مكروه لا يعرفه.
***
هربتُ في وقت كان فيه غلس الليل قادماً، وسيلقي سواده بعد قليل على الطرقات والأمكنة، دون أن أعلم أين سأبيت ليلتي الأولى، بعيداً عن جميع الأهل والأمكنة التي أعتدتها فيما سبق، أو يفترض أن أنتهي إليها.. صرتُ أركض وأمشي، وأهيم على وجهي، دون أن أعلم إلى أين!!
بدأت رحلة هروبي بإفلاتي أولاً من قبضة أبي.. توقعتُ أن يدركني بحماره.. عَديتُ كثيراً لأبتعد عنه.. كان لهاثي يسبق وقع أقدامي على الأرض.. نبضاتي تثب من قلبي الذي يكاد هو الأخر أن يقع منّي في الطريق.. صدري لم يعد يتسع لسرعة كدت أهلك بها نفسي.. كدتُ أقع من طولي وأنا اركض بسرعة تقطع أنفاسي.. أحسستُ أن نفسي تكاد تغادر جسدي وتصعد دوني إلى السماء إن استمريت بالركض على ذلك النحو الذي بدأته.. وبعد مشوار من الركض السريع ألتفت إلى خلفي، واطمأنت أنني لم أرَ أبي وحماره.. اطمأنتُ قليلاً، وأبطأتُ من سرعتي بعد أن كدتُ أقع، وكادت قواي تخور.. تبعتها مشياً على السريع حتّى وصلتُ إلى سوق الخميس.
***
وبعد السوق تعدّيتُ قليلا “بئر نعمان”.. هناك خطرتَ لي فكرة لعلّي أحتاجها، أو استعين بها على مجهول حين اللزوم؛ وملخص الفكرة أن لا ابعدُ كثيراً عن البئر.. أخبرتني نفسي أن آنس إلى هذا المكان الذي سوف أبيت فيه للصباح. و”الصباح رباح” كما جاء في المثل، و “من مشنقة إلى مشنقة فرج” يكتبه القدر، وستفرج بعد ليل وإن طال.. سيكون المبيت هنا أكثر أماناً من غيره، وسأكون اقرب لأي غوث أو نجده.
لن أبتعد عن البئر كثيراً، لاسيما وأن قرانا تعيش نزافاً يشتد، بعد أن جفَّت آبارها، والماء في هذه البئر لا بأس به، وفي الليل أوفر، والنسوة تتقاطر عليه من بعيد وقريب، وسوف يستمرن دون انقطاع إلى الفجر، جلباً للماء ذهاباً وإياباً.
مبيتي هنا سيجعل بوسعي أن أرى الضوء حول البئر بين فانوس وكشّاف، من غلس الليل حتّى مطلع الفجر، كما أن زحام النسوة طوال الليل لن يكلُّ ولن يفتر، وبمسافة قريبة يوجد هناك أيضاً دكان وطاحون نعمان، وعليه حرّاس يرابطون ليلاً في المكان.. قلتُ لنفسي وأنا أحاول تطمينها: هنا المبيت آمناً أو ممكناً، وخياره أفضل من أي مكان أخر، ربما يكون حافلاً بالاحتمالات المُفزعة، أو يكون وراداً بمجهول.
أخترتُ مكاني في زاوية من الوادي، ومعه أخترتُ أن أوجّه وجهي إلى البئر لأرى ما أطمئن له، ويمنحني قدرا من السكينة والدعة، فيما ظهري أسندته نحو بيوت المهمشين في الاتجاه المقابل بعد منعطف، وعلى مسافة قريبة في يساري شجرة “حُمر” وارفة ومعمّرة، ربما أهرع إليها، و أتسلقها لداعٍ أو ضرورة، أما يميني فمسنود إلى جبل، بإمكاني تسلقه إن لزم الحال. بإمكاني هنا أن أنام جوار شجرة “الاثاب” بعد تعب أشتدّ، وإنهاك ضرب مفاصلي، وهد معه حيلي وقواي.
وجدتُ تحت شجرة “الثاب” أوراق نافلة ويابسة كثيرة، تحدث صوتاً واضحاً وجلياً عندما تتحرك أو تداس بالأقدام، وقبل أن أذهب في النعاس إلى أبعد منه، سمعتُ ما يثير فزعي.. لعلّها سحالٍ أو زواحف أخرى، ومن يدري ربما ثعابين.. تنامت واشتدت مخاوفي من كل اتجاه.. تكاثر ما أسمعه، وبعضه صار منّي يقترب.. تغوَّل ارتيابي وكثرت المحاذير.. أنزحتُ من المكان قليلاً إلى فوق جدار قريب معمور، واخترتُ عليه مرقدي بعد إصلاح، وتمهيد حذر.
شاهدتُ في الطريق بعيداً كتلة داكنة أكثر سواداً من الليل، ثم تبدّى لي ما يشبهُ شبحاً أسوداً صرتُ أسمع خطاه بوضوح.. كلمّا أقترب من مكاني رأيته يكبر.. أسمع دعسه على الحصي وهو يقترب.. بدأ تخميني يميل إلى إنها امرأة أو جنية وليس رجل.. من ملبسها بدا لي كذلك.. حبست أنفاسي فيما كانت ضربات قلبي ترتفع.. مالت أكثر نحو المكان الذي أنا راقداً فيه.. حاولتُ أتراجع وانزاح قليلاً نحو الجبل.. يبدو أنّها رمقت حركتي، ولم يخنُها سمعها.. بدت لي جريئة وشجاعة، ولعل فضولها دفعها لتستكشف الأمر أكثر، وقد أثرتُ لديها مزيداً من الغرابة.
وفيما أنا حابس أنفاسي، وأحاول أبدو مخموداً دون حراك، اقتربت منّي أكثر لتعرف ما هو غير معتاد.. أقتربتَ حتّى بتًّ منها على مدة يد واحدة، وقد أدركتَ إنني طفل، وأدركتُ أنا أنها امرأة.
بادرتني بالسؤال: موه تعمل هنا؟!
أحسستُ أنني سبق أن سمعتُ صوتها.. لقد كان الصوت مألوفاً ومميزاً، وساحباً بلسان ثقيل.. رأيتها تتمعنِّي بعجب وغرابة.
اجبتها: أنتظر أُمّي تكمّل.. أمي فوق البئر تسأب الماء.
عرفتني وقالت: أنت ابن سيف حاشد.
أنا أيضاً عرفتها.. إنها “رسلة” شابه عشرينية على الأرجح، مهمّشة وطيبة وودودة، كانت أحياناً ترتاد دكان أبي.
اجبتها بالاعتراف أنني ابن سيف حاشد.
تفاجأت بوجودي في ذلك المكان المثير للغرابة.. لم ينطل عليها عذري، وما أوردته لها من ادِّعاء.. طلبت هي أن أرافقها إلى أمّي الذي أدّعيتُ أنها فوق البئر، لكنّي امتنعتُ عن تلبية طلبها، وأمعنتُ في الرفض، وقد بدا لي أن “حبل الكذب قصير”، وأن ذهابي معها سيكشف كذبي وزيف ادعائي على مشهد من نساء كثار.
ملاءها الشك والارتياب بأمري، وازداد لديها فضول المعرفة حافزاً، وزاد على الفضول فضول.. لم ينطلِ عليها أنني أنتظر أمّي في مكان يبعد عن البئر مسافة لا مبرر لها، وأكثر منه إن المكان الذي أنا فيه يعاكس اتجاه مجيء أمي وإيابها على فرض وجودها فوق البئر.
لم تستسغ عذري بأي وجه، وهي تقلبه بعجب ظاهر وباطن.. بدأ عذري سخيفاً وأوهن من الوهن، إنه عذر غير مستساغ وغير مقبول.. غادرتني وذهبت بمفردها للتحقق والتأكد عمّا إذا كانت أمّي فعلاً موجودة فوق البئر أم لا، ولكنّها لم تجدها، ولم تجد لها خبراً أو أثراً، والنتيجة صارت مزيداً من الغرابة والعجب المضاعف.. هرعتُ بعدها إلى “دكان نعمان” لتبلغ حراسته بالأمر، وبما وقع.
***
كان “دكان نعمان” يعج بالبضائع التي يستورها من السوق الحُرّة في عدن.. كانت تلك البضائع رخيصة ومربحة ومعفيّة من الضرائب.. وكان للدكان حرّاس يقضين.
أخبرتهم “رسلة” إنها وجدتني في حالة غريبة.. قالت لهم أنني كذبتُ عليها، وأن في الأمر سراً أو شيئاً لا تعلمه.. ارشدتهم إلى مكاني دون أن تتقدمهم أو ترافقهم.. وصفت لهم مكاني بوضوح دون غبش أو التباس.
طار النوم قبل مجيئه.. غادرني نعاسي نافراً منّي دون عودة.. فقدتُ السيطرة على نعاسي ونوم كاد يأتي.. مرّ بعض من الوقت الثقيل، فيما توجساتي كانت داخلي تموج وتضطرب.. تحتمل هذا وذاك دون أن تستقر.. أترقبُ ما سيأتي من غامض أو جديد.
اعتراني قلق ظلّ يكبر ويزداد كلّما مرّ قليلاً من الوقت.. كبر السؤال لديّ عمّا تفكر به “رسلة” وما يمكن أن تفعله..!! الأكيد إنها ستفعل شيئاً ولكنّي لا أعرفه.. أحاطني غموضها بمضي الوقت بقلق مضاعف.. كيف ستتصرف بعد الذي حدث..!! الأكيد أنها لن تترك الأمر على رسلة، ولن تطلق الحبل على غاربه.
شاهدتُ سواداً متكوِّم قادم من بعيد، ومن غير اتجاه البئر.. رأيتُ ما يشبه الشبحان يزيدان اقتراباً من مكاني، فيما الذعر يكتظ داخلي، وينتشر في أوصالي ويستنفر أطرافي.. صرتُ أهم بالهرب، وكدتُ أن أهرب بالفعل، غير أن مناداة أحدهم باسمي، جعلني أميز صاحبه واعرفه.. إنه سعيد عبدالولي، أحد حراس “دكان نعمان”.. صوته منحني شعوراً بالأمان، وربما بالمساعدة أيضاً.. شاهدتُ وعرفتُ أيضاً مُرافقه.. شخص اسمه “موسى” على اسم نبي الله.
منحاني قدراً من الاطمئنان والهدوء.. سألوني بلطف ودود.. اعترفتُ لهم، وأخبرتهم أنني هارباً من أبي.. أقنعوني بأن أعود معهما إلى أبي.. طمأنوني ومنحوني ما يكفي من الثقة والشعور بالأمان.. وعدوني أن لا يطالني من أبي عقاباً أو تعنيفاً أو دونه.. وعدوني أنهما سيتوليان مع أبي الأمر كلّه.. وعزز هذا أنني كنتُ أعرف أن أبي يحترمهما، وأغلب الظن لن يخلف لهما شوراً ولا قولا.
رافقتهم للعودة بي إلى أبي.. كان سعيد يمشي في المقدِّمة، وانا بعده، يلينا موسى راشد.. بدينا كموكب صغير يسير بصمت في لجة الليل وكنفه.. وفي منتصف الطريق ومنعطف السير بزاوية تكاد أن تكون قائمة، تقابلنا فجأة بأبي، دون أن نتوقع مجيئة أو مصادفته في الطريق.. تقابلنا جميعا وجه لوجه.. رأيتُ أبي بطلَّته الفارعة، وسلاحه الشخصي.. سمعتُ أنفاسه ولهاثه، وكأنه كان يحمل ويكر في وغى حرب أو حميّة معركة.
لا أعرف كيف أتى أبي، وإلى أين كان يتجه، والمكان الذي كان يقصده.. أحسستُ أنه يسير بتيه دون أن يعلم أو يقصد مكاناً محدداً بذاته.. رأيت أبي هذه المرة على غير عادته.. لم يستطع تصنع مكابرته، أو تقمص وإعلان القسوة المعهود بها.. القسوة المعاندة التي درج عليها، ويرفض أن يتنازل عنها حتّى وإن كانت عاطفته نحوي تموج داخله.
لا أدري سبب هدوئه هذه المرة نحوي، وعدم استثارته حالما كنت أتطلّع إليه..؟!! هل هي سكينة الناس، وتجنب إزعاجهم، وإثارة فضولهم في هذا الوقت من الليل؟!! أم هو الاستفادة مما يوفره الليل من غطاء لمدارات تنازله عن كبريائه وقسوته أمام الناس؟! أم هلع أُمّي وجنونها وزنينها عليه، أم أن أبي تذكر رؤيا كان قد نساها، وفيها ما ينبئه بخطر سوف يصيب ولده؟! أو أن السبب هو احتمال فقدان قد يستمر، وخوفه من مجهول قد يصيبني فيما يكره؟!!
أحسستُ أن أبي كان يمشي مثلي ويهيم على وجهه دون أن يعرف هو الأخر إلى أين سيذهب، ربما كثرت مخاوفه بعد أن تأكد من بيت جدّي وأخوالي أنني لست موجوداً لديهم، وربّما أخبروه أنهم شاهدوني راكضاً في الوادي، ولكنهم لا يعلمون إلى أين..!! أحسستُ بهلعه وخوفه، ومعها حميمية لا يتمزّق عراها.
رأيتهم ينزاحون قليلاً عن الطريق وتركوني لوحدي.. سمعتهم يتحدثون مع أبي بصوت خفيض، ثم عادا إليّ، وطمأنوني أن الأمور سارت على ما يرام.. أحسستُ بعاطفة جارفه من أبي ترغمه على التعاطي معي بهدوء غير معهود.. أنا أيضاً أحسستُ بعاطفة تجتاحني نحوه.. احتدم بيننا ندم كبير غير معلن، وجيش من العواطف الكتومة التي نداريها عن بعضنا حتّى لا تنكشف مكامن ضعفنا المُتخيّلة.
اجتاحني احساس غامر بالمودة وهو أيضاً يبادلني الإحساس والمشاعر نفسها إن لم يكن هو السبّاق لها لا أنا.. ربُّما تشاركنا معاً الندم والخوف من مستقبل قد يقود إلى كلفة باهضه.
أحسستُ بمكانة رفيعة في وجدان أبي.. تفاهم الجميع.. سلّماني الرجلان إلى أبي.. استلمني بليونة ورفق وعاطفة حانية حاول كتمانها عنّي، ولكنّي أحسستُ بها دافئة من لحظات صمته التي كانت كثيفة وحاضرة.
كان يسير أمامي وأنا أسير وراءه بانقياد وعاطفة وطاعة.. سرتُ بعده دون أن ينبس أحدنا للأخر ببنت شفة. لكن تناغم روحي سرا فينا، وجعل كل منّا يقرأ مشاعر الآخر وأحاسيسه بطريقة لم نعهدها في مشوار خلافاتنا التي لم تنتهِ يوماً إلا لتبدأ من جديد .
***