(5)
حُلم الدراسة الجامعية
أحمد سيف حاشد
ظل حلم الدراسة الجامعية يلح ويشتد على نحو لم أعد أقوى على مقاومته أو حتى تأجيله لأي سبب.. كنت أشعر أن أي إحباط أو خذلان سيكون وقعه على نفسيتي شديد، ولن أتعافى منه بسهولة.. وطالما لا يوجد فرصة للإعلام لعدم وجود كلية أو قسم له في جامعة عدن، فلابأس بكلية الحقوق..
كنت قد بدأت أتابع في السنة الأولى من أجل الالتحاق بالدراسة، ولكن مرت السنة الأولى دون أن أتمكن من الالتحاق بالجامعة، لأنه يتوجب مرور ما لا يقل عن السنتين بالخدمة العسكرية الفعلية بعد التخرج من الكلية العسكرية، لتتسنى الإمكانية للبت في طلب منح التفرغ للدراسة بالموافقة أو الرفض أو التأجيل..
وفي العام التالي كان السؤال: من يساعدني؟! فلم أعد قادرا على تحمل خذلان استحقاقي للدراسة الجامعية عام ثالث، والقانون قال “لا يقل عن عامين” ولم يقل “عامين” فقط. وهذا معناه أن التأجيل أو رفض الموافقة على طلب التفرغ للدراسة يظل أمرا وواردا..
كنت أحدث نفسي: طلبي متواضع، وتفوقي بات مُثبتا ومُشجّعا، وحلمي كبير، واستحقاقي للدراسة صار أكبر.. هناك شخص يمكنه أن يفهمني، ولن يخذلني، وهو على ما أظن يشجع التعليم.. إنه جار الله عمر، فلماذا لا أذهب إليه، ولاسيما أنه قد علم بتفوقي في الكلية العسكرية، وذلك لدعم طلبي الذي أرسلته عبر قيادة اللواء لوزير الدفاع صالح مصلح.. إنها فكرة لو تمت ستكون ضامنة بأن لا يتم خذلاني بعد عامين من الانتظار.
سبق أن زرتُ جار الله في بيته قبل هذه المرة عدة مرات، وفي كل مرة كان يشعرني بحرارة ودة وحفاوة استقباله، حتى وإن كنت طفلا أو غير راشد..
زرته في أحد المرات حال ما كان عمري دون لـ 17 سنة.. شاهدت في بيته مكتبه كبيرة لا يساويها إلا تواضعه الجم.. كان استقباله لي حارا جدا، وتعامل معي بندية وتقدير رفيع.. أهم انطباع تكوّن لدي من خلال المتابعة أنه لا يكذب، ولا يخلف وعده، ولا يضيق من إلحاحك وتكرار طلبك ومتابعتك..
كنت أقارنه بالمسؤول الأول الذي بدأ لي الفرق بينهما مثل فرق الثراء من الثريا.. هذا المسؤول الذي كان صديق أخي في حياته، وكانت أول معرفة لي به في بيتنا بالقرية، حالما كنت طفلا، وكان هو متخفيا عندنا، وتحركه ذهابا وإيابا يتم بسرية تامة.. هذا المسؤول قصدته مرات عديدة بعد قتل أخي، ووجدته متعاليا وينظر لي شزرا.. كان يتجاهلني إلى حد الاستفزاز والقرف.. إذا ذهبت إلى بيته كان يستقبلني بوجه عبوس مكفهر، وإذا زرته إلى مكتبه صافحني بيد من ثلج، وفي أفضل الأحوال بيد من خشب لا حرارة فيها ولا ترحاب مهما طال انقطاعك عنه.. كل مرة كان يسأل عن اسمي وكأنه مصاب بمرض الزهايمر، ثم أحاول أن أعرّفه بنفسي، وهو يعرفني جيدا، ولكنه ثقيل الدم، ولا أقول لئيم الطباع.. أما جار الله عمر فكان شخصية استثنائيا إلى حد بعيد.. كان ودودا وخلوقا وممتلئا ومتواضعا، ويستقبلني رغم صغر سني بترحاب وحفاوة..
في اللقاء الذي قصدتُ فيه جار الله عمر في منزله بخور مكسر، أبلغته أنني أرغب بالالتحاق بكلية الحقوق، وأنه قد مر عام والعام الثاني على وشك أن يمر، وأن اشتراط مرور العامين بعد التخرج من الكلية العسكرية يكاد أن يتم، ولا أريد أن يمر هذا العام لأقضي عام ثالث في الانتظار، وأنني قد رفعت بطلبي لوزير الدفاع عبر قيادة اللواء، وأخشى أن يهمله أو يتجاهله، وأن رغبتي للالتحاق بالكلية جامحة، وأخبرته أني متفوقا في دراستي، غير أنه قاطعني بأنه على علم بذلك، وطلبت منه التواصل بوزير الدفاع صالح مصلح، فرفع السماعة وأتصل مباشرة للوزير، وأخذ موافقته على الفور، ووعدني بمتابعة الموضوع، وأوفى بوعده، وكان يبر بالوعود، وجاءت الموافقة على طلبي لتبلغني قيادة اللواء بالخبر..
كدت أطير من الفرح وهم يبلغوني بالموافقة.. شعرت إن المستقبل يبتسم لي، وإن الآمال تتحقق.. غير أن الأهم إن هذا التفرغ والدراسة أنقذاني أيضا من موت محقق وأكيد بعد أشهر، حيث وقعت أحداث 13 يناير 1986 المأساوية، وما كنت منها لأنجو لو ظلّيت في اللواء، حتى بمعجزة.
***
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ