مذكرات

(٩) الأول في الدفعة .. أحمد سيف حاشد

مذكراتي .. من تفاصيل حياتي ..

(٩)

الأول في الدفعة

أحمد سيف حاشد

ما بذلته من صبر وجهد ومثابرة وتراكم تعليمي كان موعده مع النتيجة.. لابد للجهد المبذول أن يأتي ثماره وجناه.. كنت استفيد من أي إجازة أو فسحة أو وقت متاح.. ابدأ بالواجب ثم ما عده.. لم يفتنِ عدد من أعداد المجلة العسكرية السوفيتية.. أقرأ فيها أهم المواضيع الذي أراها مهمة، أو تفيد دراستي، أو أجدها ترسخ او تضيف الى معارفي العسكرية شيئا جديدا..

 

كنت أقرأ كلما تقع عليه عيني من كتب ذات علاقة، دون أن أهمل غيرها فيما يخص الثقافة العامة.. أذكر أن ملحمة “جلجامش” قرأتها في فسحي القليلة، وانا في الكلية العسكرية، وهي عبارة عن ملحمة أسطورية مشبعة بالإثارة والخيال، بالإضافة الى كونها اقدم عمل أدبي للبشرية كما قيل..

 

كانت المثابرة وقلة النوم يهدان قواي في بعض الأحيان.. أذكر في مادة “تدريب السيارات” وحالما كان استاذ المادة منهمكا بشرح عمل باستونات ماكينة السيارة، وفيما كنّا واقفين حوله ونستمع إليه، طحت أرضا من قوامي.. سقطت سقطة قوية.. بدأ سقوطي وكأن نوبة مفاجئة داهمتني بغته وأنا واقف. وعندما أراد الطلاب يعرفوا ماذا حدث! تفاجئوا بنهوضي السريع.. وأكثر منه مفاجأة هو قولي لهم:

  • “ما فيش حاجة، فقط نمت وأنا واقف”

فازدادوا دهشة، وضحك الجميع، فيما الأستاذ الطيب أذن لي أن أذهب وأستريح، غير أنني كابرت وأكملت الاستماع والدرس..

 

كنت ملتزما في نوبات الحراسة الليلية رغم أنني لا أطيقها وأتململ منها، إلا إذا كانت حراسة إحدى القواعد الرادارية على ساحل عمران، حيث كانت بالنسبة لي أقرب إلى النزهة والفسحة..

 

وفي أحدى نوبات الحراسة في الكلية، وفيما كنت قاعدا على الكرسي وبيدي البندقية، سقط رأسي وعنقي إلى الأسفل وهويت، فكادت نصله السكين المثبتة في رأس البندقية أن تصيبني في عيني.. كانت درسا أيقضني طوال نوبات حراستي اللاحقة.. كدتُ التعلّم بكلفة كبيرة..

 

***

 

بإمكانك أن تخطأ ولكن لا تكرر الخطأ.. ابذل ما في الوسع من جهدك ومجهودك، وستجني الثمار بقدر ما هو مبذول.. ارفع سقف تمنياتك وابذل الجهد الموازي الذي تستحقه تلك الأمنيات، وستجني ما تطيب له نفسك.. لا تترك ضعفك في مقام أن يُسلب تفوقك في مقام آخر.. بل حافظ على الجيد، وقوي مكمن قوتك لتعوض ما أهدرته نقطة ضعفك.. اسعى لأعلى درجة من التفوق وستتفوق.. لن يخذلك القدر.. روم أكثر ستجد نفسك في المقدمة..

 

كانت تعجني مواد علم النفس، والهندسة، وأسلحة التدمير الشامل، والتكتيك، والتدريب الناري، وغيرها من المواد، فيما كانت الرماية تتراوح بين الجيد والجيد جدا.. وفي نهاية امتحان العامين كنت قلقا أو غير واثق من قدرتي في إصابة الهدف في المنتصف، وعلى نحو يحقق لي درجة الامتياز..

 

إن للحظ عثرته، ولا يكون الحظ دوما حليف معك.. الحظ يبقى حظا.. أبسط نفَس أو اهتزاز ليد أو كتف يمكنه أن يفسد فرحتك.. أصبعك ربما تخذلك إن لم يكن ضغطها للزناد في لحظة الضبط.. عينك التي تسدد بها ربما تنحرف قدر شعرة عن الهدف؛ فتخونك بانحراف لا تتوقعه.. جهازك العصبي ربما هو الآخر يفسد عليك كل شيء.. ولكن كان لابد أن أكمل ما بدأت، وكانت النتيجة في الرماية جيد جدا، أو 4 من 5 فيما بقية المواد كانت امتياز؛ فتمت المفاضلة، وكنت الأول..

 

***

 

حصلت على المرتبة الأولى في الدفعة، ولمعت في ذهني عبارة “ من جد وجد ومن زرع حصد” وهي التي تعلمت فيها الخط ولطالما كررت كتابتها حالما كنت صغيرا في عهد تعليمي الاول.. واليوم حصدت ما أروم بعد كد عامين شديدين..

 

طعم التفوق لذيذا، ولاسيما عندما يأتيك بعد عناء وجهد ومشقة.. كنز تجده في عمق المكان أو آخر النفق الذي شققته بأظافرك وتجاوزت به يأسك.. كان جني الحصاد، وكان شعوري بالفرح عارما، وهم يذيعون اسمي وترتيبي الأول.

 

لقد كانت المرة الأولى في حياتي التي أستلذ فيها بنجاح على ذلك النحو.. لا يشعر بلذة النجاح إلا من تعب واجتهد حد طلوع الروح..

 

حضر حفل تخرج الدفعة وترقيتها إلى ملازم ثاني الرئيس على ناصر محمد، وكان هذا تاريخ 1/9/1983 تمت المناداة باسمي وترتيبي الأول، وسلمني جائزة كانت عبارة عن إذاعة ومسجلة كبيرة “توشيبا” أدهشتني كثيراً وكان شكلها وحجمها يدعو للانبهار، وتم تكريمي بزيارة للاتحاد السوفيتي لمدة عشر أيام، بمعية التسعة الأوائل الآخرين في الدفعة، ومنح كل منّا 300 دولار مصروف جيب لتلك الرحلة..

 

***

 

لأول مرة يظهر اسمي في لائحة الشرف على بوابة الكلية العسكرية بعد أن أحرزتُ المركز الأول في الدفعة.. لأول مرة استلم جائزة من رئيس يمني، وأسافر إلى خارج اليمن، وأركب طائرة، وأشاهد العالم من علو مرتفع.

 

أول مرّة أعرف “المترو” والتنقل في أنفاق طويلة تحت الأرض في عاصمة عظيمة.. المرة الأولى التي أشاهد رجال يقبّلون حبيباتهم وزوجاتهم في أمكنة عامة.. لأول مرة أدخل “سيرك”، وأشاهد بأم عيني حضارة أخرى، وعالم مختلف عمّا أعتدته وألفته..

 

***

 

الأوائل والكوادر اليوم في البيوت يموتون بصمت وسط ضجيج هذه الحرب التي لا تريد أن تضع أوزارها.. وإن خرجوا يبحثون عن مواطنة لا يجدون إلا نخب ملكية أكثر من الملك، ودورها لا يتعدّى دور كلاب الحراسة.. إمعات مرتهنين الولاء والضمير.. لا حياء لديها ولا خجل.. بلا موقف ولا إرادة ولا حياة..

 

في هذه الحرب الملعونة كثيرون هم الباحثون عن وطن، ولكنهم لا يجدون إلا نخب تافهة أكثر سقوطا ووضاعة.. بلا انتماء ولا قيم ولا مروأه.. بلا أحاسيس ولا مشاعر.. من المهين بل ومن الكارثة أن نبحث عن وطن لدى نخاسين الأوطان وقوادين الشعوب ومحترفين الدعارة..

 

نخب لا تجيد إلا تكون مجرد قفازات للطامعين والمتآمرين على ثروات الشعوب والأوطان.. عملاء بالباع والذراع لا يجيدون غير القتل والخراب والدمار والتمزيق والولاء الأكثر سفالة ووضاعة.. صغار بعصبيات أصغر منهم.. عصبيات شديدة الضيق وكثيرة النتانة مسنوده بلوبي فساد كبير أشد نتانة وكارثية..

 

اليوم نجد المتفوقون والأوائل هنا وهناك يُحرمون من حقوقهم الأصيلة، وعلى رأسها حق المواطنة، وذلك باغتصابها بالسلطة والغلبة، وبكل صفاقة واستسهال؛لتصير قيد احتكار العصبويات الصغيرة على مختلف مسمياتها كانت جهوية أو مناطقية أو قبلية أو فئوية أو سلالية، بل وأصغر منها كالتوريث وخلافه.

 

اليوم هنا وهناك نجد المتماهون بولاءتهم وجلّهم من الفاشلين والوصوليين والانتهازين والجهلة هم من يحكموننا، ويتولون أمورنا، ويستولون على حقوقنا بما فيها حقنا في الحياة من خلال استيلائهم على رواتب المعلمين والموظفين وسنوات الخدمة والمساعدات الإنسانية للجوعى منّا، والحقوق الأخرى وما أكثرها..

 

اليوم كثير من المناصب والوظائف في السلّم الإداري والوظيفي، صارت هي تلك التي يشغلها الجهلة والفاشلون ومعهم أولئك الأكثر دناءة وسفالة وانجرار.. تحلل الوطن وتلاشت المواطنة لتحل محلها اعتبارات ومعايير مغايرة تماما لمفهوم الوطن والمواطنة، ولا لها صلة بمفهوم العدالة والمساوة وتكافؤ الفرص..

 

***

يتبع..

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى