(8)
“فولجا جراد” .. الحرب والأخلاق
أحمد سيف حاشد
موقع برلماني يمني:
كانت وجهتنا الثانية بحسب برنامج الزيارة إلى مدينة “فولجا جراد” والتي تبعد عن العاصمة موسكو بأكثر من ألف كيلو متر.. راج وأنتشر اسم “ستالينجراد” على نطاق واسع في الحرب العالمية الثانية، حيث شهدت أهم المعارك الكبرى، التي استمرت بحسب المصادر حوالي ستة أشهر، وسميت باسمها “معركة ستالينجراد”، وبلغت الخسائر البشرية فيها بحدود المليونين، ما جعل بعضهم يصنّفها بإحدى أكبر المعارك دموية في تاريخ الحروب..
ومن المهم هنا ومن الزاوية المقابلة أن تشير إلى بعض من ويلات تلك الحروب، وما تخلّفه من نتائج وآثار كارثية، حيث قامت الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب العالمية الثانية بإلقاء قنبلتين ذريتين على مدينتي “هيروشيما” و”ناجازاكي” اليابانيتين، راح ضحيتها في لحظة واحدة بحسب المصادر أكثر من مائة وعشرين ألف قتيل، وأكثر من ضعفي هذا الرقم قُتلوا فيما بعد نتيجة الاشعاع النووي، غير الجرحى، وكان معظم الضحايا من المدنيين، وطال التدمير أكثر من 90% من المباني والمنشآت في المدينتين..
الحروب مروعة وبشعة على نحو يفوق التصور بل والخيال أحيانا، ويمكن هنا نقل شهادة سيدة يابانية عاشت حدث إحدى الانفجارين النوويين؛ حيث تقول:
«كان عمري 12 عاماً.. رأيت صاعقة من البرق أو ما يشبه عشرات الآلاف الصواعق تومض في لحظة واحدة، ثم دوّى انفجار هائل، وفجأة ساد المكان ظلام تام، عندما أفقت وجدت شعري ذابلاً، وملابسي ممزّقة، وكان جلدي يتساقط عن جسدي، ولحمي ظاهر، وعظامي مكشوفة. الجميع كان يعاني من حروق شديدة، وكانوا يبكون ويصرخون ويهيمون على وجوههم وكأنهم طابور من الأشباح.. لقد غطّى مدينتنا ظلام دامس بعد أن كانت منذ قليل تعجّ بالحياة» المصدر موسوعة “ويكيبيديا”
***
والشيء بالشيء يُذكر.. بوسعنا هنا أن نتوقف قليلا لنثير نقدا موضوعيا ذو بعد أخلاقي وحقوقي بصدد الحروب، ومنها هذه الحرب التي نعيشها اليوم في اليمن.. إنها إحدى الحروب القذرة التي نعيش عامها السابع ونلج في عامها الثامن دون أن يتحرك ضمير العالم، أو يعمل على نحو جاد لإيقافها، بل وكان بإمكانه أن يمنع قيامها من الأساس..
نتوقف هنا أمام تلك الأسئلة التي أثارتها رواية الجريمة والعقاب لدوستويفسكي: لماذا نجرّم ذلك الطالب البائس الذي يقتل العجوز المرابية في رواية “الجريمة والعقاب”، ولا نجرّم ذلك القائد الذي يرسل جنوده للموت ليعلوا في المجد؟!!
لماذا لنابليون حق القتل، ولأمريكا حق إلقاء القنابل النووية، وليس لراسكولنيكوف قتل المرابية التي يمكن بمالها تحرير نفسه، وربما تحرير كثيرين غيره من الفقر؟!
لماذا ننحاز ونحن نقرأ الرواية إلى صف الذي طالب “راسكولينكوف” قاتل المرابية أن يسلّم نفسه بدوافع عدلية وأخلاقية، عندما تجري دعوته بالقول: “استيقظ .. انهض الأن في هذه الدقيقة، و قف عن تقاطع الطرق، وأنحني .. قبِّل الأرض التي دنستها، ومن ثم أنحني للعالم كله على اطرافك الأربعة، وقل بصوت عال للجميع .. نعم.. نعم لقد قَتلت.ُ ” وفي المقابل لا نطلب من الذين قتلوا الآلاف ومئات الآلاف، والملايين من البشر أن يفعل ما فعله “راسكولينكوف”؟!!
لماذا ننحاز إلى مطالبة “راسكولينكوف” بالتوبة المُكلفة لبقية حياته بالأعمال الشاقة، ولا نطلب عقاب من ساقوا آلاف وملايين البشر إلى جحيم الحروب والموت والمجاعات؟!!
وماذا أيضا عمّن دمروا شعوبهم أو أفقروها أو تعسفوها بدوافع أيديولوجية أي كانت، أو بدافع اعتقادهم أنهم يمتلكون الحقيقة الكاملة، أو ادعائهم أنهم أصحاب الحق المحض، وأن أفعالهم مشروعة ومبررة، لا شك بها ولا مدخل فيها لريب؟! وماذا عن أولئك الذين صنعوا الحروب، أو رعوها بدافع الاطماع، أو الثأر والانتقام، أو صناعة المجد أو استعادة المجد الضائع؟!!
كل هذه التساؤلات لا نقصد من خلالها تبرير الجريمة أو بعضها، ولكن نقصد التساؤل: لماذا هذا الغياب والفقدان الكبير للعدالة؟! لماذا العدالة لا تطال كبار المجرمين مثلما تطال صغارهم؟!!
إن ما نحتاجه هو عدالة للجميع.. نحتاج إلى عدالة تطال كبار المجرمين قبل صغارهم لردع مرتكبي الجرائم والحد منها ومن البشاعات التي يتم ارتكابها، وعدم الإخلال بميزان ومعايير العدالة التي نقصدها أو نتغيّاها؟!!
وفي هذا المقام بإمكاننا أن تتحدث أيضا عن جرائم إبادة الهنود الحمر السكان الأصليين في أمريكا، وإخضاع ما بقي منهم.. بإمكاننا أن نتحدث عن جرائم الحروب التي ارتكبتها الولايات المتحدة في فيتنام، والعراق وغيرها، وجرائم الحرب التي أرتكبها الفرنسيون في الجزائر، وجرائم الحرب التي أرتكبها الأتراك ضد الأرمن، وكل نظائر تلك الحروب التي رفض أو يرفض مُرتكبوها تعويض الشعوب، أو حتى الاعتذار لها عن تلك الحروب المروّعة التي ارتكبتها تلك الدول بحق تلك الشعوب.
***
وعودة للتعريف بالمدينة التي زُرناها، ومُنحت لقب “المدينة البطلة”، وكان قد تضمنها برنامج زيارتنا لأهميتها من حيث تاريخها العسكري في الحرب العالمية الثانية، ولأن منها جرى تحوّل مسار تلك الحرب، وتغيير معادلتها لصالح الاتحاد السوفيتي..
“فولجا جراد”، هو اسمها القديم، ثم تم تغيير اسمها عام 1925 إلى اسم “ستالينجراد”، وبعد وفاة “ستالين”، وأفول “الستالينية” وتفكيك ما أُسماها خلفه “نيكيتا خروتشوف” بعبادة الفرد أو عبادة الشخصية، تمت العودة إلى اسمها القديم “فولجا جراد” حيث أقترن اسمها باسم نهر “الفولجا” وتمتد المدينة بمحاذاة الضفة اليمنى لنهر الفولجا بطول يبلغ 30 كم..
يا إلهي .. ماذا هذا الذي أراه عن بعد.. من هذه المرأة التي يعتلي رأسها الفضاء، وهي تمتشق السيف في وجه السماء؟!! ما قصتها؟! اي فنان أبدع كل هذا؟! وكيف أتمه؟! وكم أستغرق من الوقت ليصير على هذا النحو الذي نراه؟!
أول ما يبهرك عند نزولك أو وصولك إلى مشارف المدينة أو ضواحيها هو ذلك النصب التذكاري الكبير الذي تشاهده من البعيد، وهو تمثال لامرأة ممتشقة السيف يطلق عليها “الوطن الأم” يقع على هضبة مرتفعة؛ ليبدو ارتفاع فوق ارتفاع، ليطل عُلاها على المدينة هيبة وجلال وبطولة..
وكان هذا التمثال أنداك هو أعلى منحوتة في العالم، وبارتفاع يصل إلى 85 مترا أقيم تخليدا لضحايا معركة “ستالينجراد” التي جرت بين الاتحاد السوفييتي وألمانيا عامي 1942 و1943. وأصبح تمثال المرأة التي تحمل السيف بيدها هو رمزا للمدينة.
ومن معالم هذه المدينة ما يعرف بـ”القبة السماوية”، ونصب تذكاري، وتماثيل، ومتاحف، ومسارح، وقاعات للحفلات، ولوحات فنية.. وتوجد فيها أيضا مصانع ومنشآت وعمران، ونهر الفولجا، وهو أغزر وأكبر نهر في أوربا كلها.. “الفولجا” بحسب المصادر تعني نهر المشرق الذي أطلقه سكان حوض النهر منذ القدم، والبالغ طوله أكثر من 3500 كم ” أما “جراد” المقرونة باسم النهر فتعني مدينة..
***
وفيما يُعرف بالقبة السماوية أخذنا مقاعدنا تحتها.. تم اطفاء الأنوار .. شيء خرافي تجده ينقلك إلى عالم من الدهشة والذهول.. نسيت أنني قاعد على الكرسي.. نسيت من أنا ومن أين أتيت!! خلت نفسي أسبح في الفضاء كنجم أو كوكب أو رائد فضاء..
بديت والكون من حولي ومن كل اتجاه، تهت في الفضاء حتى فقدت كينونتي والاتجاهات الأصلية المعتاد عليها من شرق وغرب وشمال وجنوب.. كل شيء هنا يدور.. يدور من حولي حتى أدوخ..
ساعة كاملة تقضيها وأنت تحلق بين النجوم والكواكب والمجرات والأكوان.. ساعة من المعرفة الكونية التي لا تنساها ما حييت..
***
زُرنا متحف البانوراما الذي يصور “معركة ستالينجراد” في الحرب العالمية الثانية ويعرض ملخصا للصمود والاستبسال فيها، وزهو الانتصار العظيم.. رغم كثرة الملاحم والبطولات التي تشاهدها في الصور والتماثيل وبقايا قطع وآثار الحرب، وكل ما ينقلك إلى أجواءها، لفت نظري وجود صور لقادة دول التحالف تشرشيل، وروزفلت، وستالين بطريقة مبهرة.. رؤساء الدول المنتصرة في الحرب.. الرؤساء الذي اجتمعوا عقب الحرب، في مكان من العالم، ليتقاسموه..
صار للعالم أسيادا.. بات العالم على الطاولة غنيمة حرب ونفوذ يتقاسمونه المنتصرون؛ وليبدؤوا صراعا آخر بينهم من نوع آخر.. حرب باردة أستمرت لعقود..
شعوب كثيرة دفعت أثمانا مكلفة وباهظة، ولازال بعضها يدفع ثمنا للمنتصر إلى اليوم.. وحتى كثير من الأحزاب الشيوعية “المضحوك عليها” في بلدان أوربية مثل بريطانيا وفرنسا تفاجأت بنتائج الاقتسام.. صُعقت وهي تشعر أنه تم التخلّي عنها، وأن أرباح الحرب يتقاسمها المنتصرون.. صادم أن تجد المبادئ العظيمة وقد تحوّلت إلى مجرد كلام فارغ ومردود حالما يتعلق الأعمر بالغنيمة.. الواقع كان مختلف، وقد جرى تقاسم العالم بين المنتصرين أرباب هذه الحرب الكارثية والمروعة على شعوب الأرض..
زرنا أيضا بقايا بناية تسمى “بيت بافلوف” التي شهدت صمود استثنائيا بل وأسطوريا في وجه المحتل.. حضيرة من المدافعين تصمد باستماته في وجه الغزاة.. معارك دارت رحاها للسيطرة عليها، وأنتصر في نهايتها الصامدين فيها، وهي لا زالت تحتفظ بكثير من جدرانها التي تحكي أسطورة المقاومة والصمود لهذه المدينة البطلة.. بعض من مشهد يعكس ضراوة الحرب، واستبسال المدافعون عن البناية والمدينة..
***
يتبع..
صفحة أحمد سيف حاشد على تويتر 2
حساب أحمد سيف حاشد على الفيسبوك
صفحة أحمد سيف حاشد على الفيسبوك
قناة أحمد سيف حاشد على التليجرام
مجموعة أحمد سيف حاشد على التليجرام
أحمد سيف حاشد هاشم
Ahmed Seif Hashed’s Facebook page